
نقرأُ في سورةِ الشورى، وفي الآيةِ الكريمة 19 منها، قَولَ اللهِ تعالى: (اللَّهُ لَطِيفٌ بِعِبَادِهِ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ الْقَوِيُّ الْعزيز).
يُعينُنا تدبُّرُ هذه الآيةِ الكريمة على تبيُّنِ ما جلاَّهُ اللهُ تعالى للسيدةِ مريم من عجيبِ قدرتِه، وذلك رأفةً منه بها ورحمة وهي التي كان المخاضُ إذ ألجأَها إلى جذعِ النخلةِ، فإنَّه جعلَها تُدرِكُ “هَولَ الأمرِ” إذ أوشكت على أن تضعَ طفلَها؛ هذا الأمرُ الذي حفظَ لنا القرآنُ العظيم شيئاً يسيراً من شديدِ وطأتِه عليها وعظيمِ تأثيرِه: (فَأَجَاءَهَا الْمَخَاضُ إِلَى جِذْعِ النَّخْلَةِ قَالَتْ يَا لَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هَذَا وَكُنْتُ نَسْيًا مَنْسِيًّا) (23 مريم). فكان أن جعلَ اللهُ تعالى النخلةَ تُثمِرُ في عِزِّ الشتاءِ وبلمحِ البصر رُطباً جَنياً، وجعلَ الماءَ يتدفَّقُ عند هذه النخلةِ بلمحِ البصرِ أيضاً غديراً سَرياً.
وهنا لابد لنا وأن نتبيَّنَ أنَّ السيدةَ مريم ما كانت لِتقرَّ عيناً لولا أنَّ اللهَ تعالى جعلَ في ذلك الرُّطَبِ الجَني، وفي ذلك الماءِ السَّري، ما يسَّرَ لها أن تَقرَّ عيناً. فالرُّطَبُ الجَني لم يكن كالرُّطَب الذي نعرف، والماء السَّري لم يكن الماءَ الذي نعرف! فلولا أنَّ اللهَ تعالى قد جعلَ في كلٍّ منهما “شيئاً ما” هو أعلمُ به، لما كان للسيدةِ مريم أن تَقرَّ عيناً. فذلك الشيءُ اللطيفُ الخَفي هو الذي سكَّن به اللهُ تعالى روعَ السيدةِ مريم وأصلحَ به بالَها.