ابتلى اللهُ تعالى الإنسانَ بدُنياهُ هذه إذ جعلَها لهواً ولَعِباً وزينةً وتفاخراً بين أهلِها وتكاثراً في الأموالِ والأولاد وفي كلِّ ما يحرصُ الإنسانُ على أن يُباهِيَ به الآخرين: (اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلَادِ كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَبَاتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَكُونُ حُطَامًا وَفِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٌ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ) (20 الحديد).
والحياةُ الدنيا، إذ هي زينةٌ، فإنَّها أقصى مطلبِ أهلِها وغايةُ مبتغاهم، وهي لذلك لن تنتهيَ بالساعين وراءَ سرابِها إلى غيرِ ما يجدهُ مَن جاءَ السرابَ “فلم يجده شيئاً ووجدَ اللهَ عندَهُ فوفَّاهُ حِسابَه”: (وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاءً حَتَّى إِذَا جَاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئًا وَوَجَدَ اللَّهَ عِنْدَهُ فَوَفَّاهُ حِسَابَهُ وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ) (39 النور).
ولذلك كان أهلُ اللهِ حريصين الحِرصَ كلَّه على أن يقصِروا تعامُلَهم مع الحياةِ الدنيا على ما لا يجعلُ لها سلطاناً على قلوبِهم يُمكِّنُ منها النفسَ والهوى. أما أهلُ الدنيا، الذين غرَّتهم فاغتروا بها، فهُم الذين انطلت عليهم خُدَعُها وجازَت عليهم فِتنتُها واستولَت عليهم بفاتِنِ سحرِها ففاتهم أنَّ اللهَ تعالى ما خلقَها وزيَّنها بِزينتِها إلا لِيَميزَ الخبيثَ من الطيبِ من أهلِها:
1- (إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الْأَرْضِ زِينَةً لَهَا لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا) (7 الكهف).
2- (مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لَا يُبْخَسُونَ. أُولَئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ إِلَّا النَّارُ وَحَبِطَ مَا صَنَعُوا فِيهَا وَبَاطِلٌ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ) (15- 16 هود).
3- (وَمَا أُوتِيتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَمَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَزِينَتُهَا وَمَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ وَأَبْقَى أَفَلَا تَعْقِلُونَ) (60 القصص).
ولذلك حذَّرَ اللهُ تعالى رسولَه الكريم صلَّى اللهُ تعالى عليه وسلَّم من الانجرارِ خلفَ زينةِ الحياةِ الدنيا؛ هذه الزينةُ التي ما خلقَها اللهُ تعالى إلا ليُمحِّصَ بها عِبادَه:
1- (وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلَا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا) (من 28 الكهف).
2- (يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ إِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا فَتَعَالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ وَأُسَرِّحْكُنَّ سَرَاحًا جَمِيلًا) (28 سورة الأحزاب).
وبذلك يتبيَّنُ لنا أنَّ الإجابةَ على سؤالِ “مَن هُم الذين زُيِّنَت لهم الحياةُ الدنيا؟” يتكفَّلُ بها تدبُّرُ قولِ اللهِ تعالى الواردِ في الآياتِ الكريمةِ التالية:
1- (زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا) (من 212 البقرة).
2- (زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالْأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ ذَلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الْمَآبِ) (14 آل عمران).
3- (الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَوَابًا وَخَيْرٌ أَمَلًا) (46 الكهف).
4- (وَقَالَ مُوسَى رَبَّنَا إِنَّكَ آتَيْتَ فِرْعَوْنَ وَمَلَأَهُ زِينَةً وَأَمْوَالًا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا رَبَّنَا لِيُضِلُّوا عَنْ سَبِيلِك) (من 88 يونس).
غيرَ أنَّ زينةَ الحياةِ الدنيا لا ينبغي أن تُنسيَنا أنَّ هنالك زينةً حلالاً سماها القرآنُ العظيم “زينةَ الله”، وهي التي أحلَّها اللهُ تعالى لعبادِهِ: (قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ) (32 الأعراف).
إذاً فهذه الحياةُ الدنيا قد زيَّنَها اللهُ بزينةٍ جعلها فتنةً للناسِ لِيَميزَ خبيثَهم من طيبِهم وليُمحِّصَ بها قلوبَهم وأعمالَهم. وبذلك يتبيَّنُ لنا أنَّ الذين زُيِّنت لهم الحياةُ الدنيا هم أهلُها الذين غرَّتهم هذه الحياةُ فاغتروا بها وانشغلوا عن زينةِ اللهِ التي أخرجَها لعبادِه وأحلَّها لهم.