
امتدحَ اللهُ تعالى في قرآنِه العظيم أُولي الألبابِ من عبادِه الذين آمنوا بوصفه لهم أنَّهم “يتفكرون” في خلقِ السماواتِ والأرض واختلافِ الليلِ والنهار (إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآيَاتٍ لِأُولِي الْأَلْبَابِ. الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ) (190- من 191 آل عمران).
وهذا “التفكُّرُ” هو عينُ ما جاءتنا به الآيةُ الكريمة 24 من سورة يونس (إِنَّمَا مَثَلُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنْزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الْأَرْضِ مِمَّا يَأْكُلُ النَّاسُ وَالْأَنْعَامُ حَتَّى إِذَا أَخَذَتِ الْأَرْضُ زُخْرُفَهَا وَازَّيَّنَتْ وَظَنَّ أَهْلُهَا أَنَّهُمْ قَادِرُونَ عَلَيْهَا أَتَاهَا أَمْرُنَا لَيْلًا أَوْ نَهَارًا فَجَعَلْنَاهَا حَصِيدًا كَأَنْ لَمْ تَغْنَ بِالْأَمْسِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ). وهو ما بوسعنا أن نتبيَّنه أيضاً بتدبُّرنا الآيةِ الكريمة 44 من سورة النحل (وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ).
وهذا “التفكُّرُ”، الذي أمرَنا اللهُ تعالى به، لا يقتصرُ على ما في هذه الحياةِ الدنيا من الآيات؛ فأمرُ اللهِ تعالى مَوصولٌ بكلِّ ما هو ذو صلةٍ بالآخرة من مفرداتٍ ما كنا لنعلمَ عنها، ولا لنحيط بها، لولا أنَّ اللهَ تعالى قد أحاطَنا بها علماً (اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ. الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَم. عَلَّمَ الْإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ) (3- 5 العَلَق). و”القلمُ” هنا هو قلَمُ اللهِ تعالى الذي خطَّ به كُتُبَه التي أنزلَها على عبادِه الذين اصطفى وحياً يوحى لولاه ما كنا لنعلمَ شيئاً عن الآخرةِ ولا عما سيخلُقُه اللهُ تعالى فيها من شيءٍ خَلقاً لا قدرةَ لنظرياتِ العلمِ وقوانينِه على التعليلِ له (لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ. فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ) (من 219- من 220 البقرة).
ولذلك فلا حجةَ لأولئك الذين يُنكرون على عبادِ الله أن يتفكَّروا في الآخرةِ بذريعةِ أنَّ في ذلك خَوضاً في “غيبياتٍ” لا طائلَ لنا من ورائها! أنظر كيف تجاسروا على قرآنِ اللهِ تعالى وتطاولوا بهذا الذي يؤاخذونَنا به من انشغالٍ بما أمرَنا اللهُ تعالى أن ننشغلَ به ونتفكَّر!