من تجلِّياتِ الله كما يقصُّها علينا القرآنُ العظيم

“ليس كمثلِ اللهِ شيءٌ على الإطلاق”؛ هذا ما جاءنا به القرآنُ العظيم تِبياناً لحقيقةِ اللهِ تعالى (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ) (من 11 الشورى). فاللهُ لا يحولُ تواجدُهُ في مكانٍ دون أن يكونَ له تواجدٌ في أماكن أخرى لانهائية، وذلك على النقيضِ مما تتمايزُ به جميعُ مخلوقاتِهِ عنه تعالى. فكلُّ مخلوقٍ لا قدرةَ له على أن يتواجدَ إلا في هذا الحيِّزِ أو ذاك من مساحةِ الوجود، ناهيك عن استحالةِ تمكُّنِ أيِّ مخلوقٍ من أن يكونَ له ما هو كائنٌ للهِ تعالى من وجودٍ خارج هذا الوجود وتواجدٍ داخله. فاللهُ تعالى وسِعَ كُرسيُّه السمواتِ والأرض وهو نورُهما الذي يُحيطُ بكلِّ ما فيهما إحاطتَهُ بهما.
وإذا كان اللهُ تعالى يتمايزُ عن جميعِ خلقِهِ بهذا الذي هو عليه من وجودٍ خارج السمواتِ والأرض، وتواجدٍ داخلهما، فإنَّ هذا التمايُزَ هو ليس كلَّ ما هنالك من “تمايزاتٍ” بينه تعالى وبين خَلقِه. فهذه التمايزاتُ لا يحيطُ بها على ما هي عليه حقاً وحقيقةً إلا اللهُ الذي هو وحدَه مَن أحصاها، وهو وحدَه مَن يُحيطُ بحقيقتِها.
ولعلَّ “تمايُزَ التجلِّي” أن يكونَ واحداً من أعظمِ ما يتمايزُ به اللهُ تعالى عن جميعِ خلقِه. فالقرآنُ العظيم يقصُّ علينا من أنباءِ هذا التمايزِ ما نحن إن تدبَّرناهُ أعانَنا ذلك على تبيُّنِ العلةِ من وراءِ استحالةِ أن يكونَ لمخلوقٍ ما يجعلُ منه يتعالى على قدَرِهِ الذي خُلِقَ بمقتضاه، فكان لزاماً عليه أن يبقى رهينَ الحدودِ التي فرضتها عليه خِلقتُهُ هذه.
وفي هذا المنشور سوف أتطرقُ إلى بعضٍ من “تجلياتِ الله” كما يقصُّها علينا القرآنُ العظيم. فاللهُ تعالى تجلَّى للجبلِ فجعلَه دكاً (فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا) (من 143 الأعراف). واللهُ تعالى قادرٌ على أن يأتيَ فيتجلى مجيؤه بالكيفيةِ التي يشاء دونَ أن يعني تجلِّيه هذا أنَّه قد أصبح “مُحدَّداً” به فلا وجودَ ولا تواجدَ له تعالى خارجَ نطاقه، ثمَّ أنَّ اللهَ تعالى قادرٌ على أن “يأتيَ” فيتجلَّى مجيؤه بالكيفيةِ التي يشاء. وهذا ما بوسعِنا أن نتبيَّنه بتدبُّرنا الآيات الكريمة: (هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلَائِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ رَبُّكَ أَوْ يَأْتِيَ بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ) (من 158 الأنعام)، (كَلَّا إِذَا دُكَّتِ الْأَرْضُ دَكًّا دَكًّا. وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا. وَجِيءَ يَوْمَئِذٍ بِجَهَنَّمَ يَوْمَئِذٍ يَتَذَكَّرُ الْإِنْسَانُ وَأَنَّى لَهُ الذِّكْرَى) (21- 23 الفجر).
ثم أنَّ اللهَ تعالى سوف يتجلَّى يومَ القيامة لعبادِه المؤمنين بالكيفيةِ التي يشاء حتى يُمكِّنَهم من أن ينظروا “إليه” فـ “يرونه” وهم موقنون بأنَّ ما يرونَه هو ليس إلا ما شاءَ اللهُ تعالى أن يتجلَّى لهم به، وأنَّه قادرٌ على أن يتجلَّى لهم بما لا نهايةَ له من التجليات التي هم مُستيقنون من ألا واحدَ منها ولا كلَّها جميعاً “تمثِّلُ” اللهَ تعالى على ما هو عليه حقاً وحقيقة (وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ. إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ) (22- 23 القيامة).

اترك تعليقًا

إملأ الحقول أدناه بالمعلومات المناسبة أو إضغط على إحدى الأيقونات لتسجيل الدخول:

شعار ووردبريس.كوم

أنت تعلق بإستخدام حساب WordPress.com. تسجيل خروج   /  تغيير )

Facebook photo

أنت تعلق بإستخدام حساب Facebook. تسجيل خروج   /  تغيير )

Connecting to %s