ومِن أمرِ اللهِ ما هو مُسبَّب بأسباب ومِن أمرِ اللهِ أيضاً ما يجيءُ مِن دونِ أسباب

للهِ تعالى يخضعُ كلُّ ما في الوجود. ولقد تكفَّلت الأسبابُ والقوانينُ التي بثَّها اللهُ تعالى في ربوعِ الوجودِ وأصقاعِه من أقصاه لأقصاه بدوامِ هذا الخضوعِ الذي لولاه ما جرت وقائعُ الوجودِ ولا كان لأحداثِه أن ترى النور. فالوجودُ قائمٌ باللهِ، وأحداثُه قد سبَّبَ لها اللهُ فجعلَها تجري وفقَ هذه الأسبابِ والقوانينِ التي إن شاءَ “عطَّلَ” منها ما يشاء حتى “يقضيَ أمراً كان مفعولا”. ويُخطِئُ كلُّ مَن يتوهَّمُ أنَّ لهذه الأسبابِ والقوانينِ “سلطةً” على أحداثِ الوجود “بمعزلٍ” عن الله! فلولا أنَّ اللهَ هو مَن يُمسِكُ بهذه الأسبابِ والقوانين لَما كان لها أن تتحكَّمَ بمثقالِ ذرةٍ من هذا الوجود. وإمساكُ اللهِ تعالى بالوجودِ هو العلةُ من وراءِ تماسُكِه وعدمِ زوالِه: (إِنَّ اللَّهَ يُمْسِكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ أَنْ تَزُولَا وَلَئِنْ زَالَتَا إِنْ أَمْسَكَهُمَا مِنْ أَحَدٍ مِنْ بَعْدِهِ) (من 41 فاطر)، (وَيُمْسِكُ السَّمَاءَ أَنْ تَقَعَ عَلَى الْأَرْضِ إِلَّا بِإِذْنِهِ) (من 65 الحَج).
فوقائعُ الوجودِ وأحداثُه إذاً قد سبَّبَ لها اللهُ تعالى وجعلَها لا تحدثُ إلا “بأمرِه”:
1- (وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ مُسَخَّرَاتٍ بِأَمْرِه) (من 54 الأعراف).
2- (وَسَخَّرَ لَكُمُ الْفُلْكَ لِتَجْرِيَ فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ) (من 32 إبراهيم).
3- (وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومُ مُسَخَّرَاتٌ بِأَمْرِهِ) (من 12 النحل).
غيرَ أنَّ هذا لا ينبغي أن يجعلَنا نتوهَّمُ أنَّ “سريانَ” تيارِ وقائعِ الوجودِ وأحداثِه مقدَّرٌ له أن “يستمرَّ” هكذا ومن دونِ توقُّفٍ طالما كانت هذه الوقائعُ والأحداثُ تتحكَّمُ فيها تلك الأسبابُ والقوانينُ التي بثَّها اللهُ تعالى في هذا الوجود! فما ينبغي أن نحرصَ على دوامِ تذكُّرِه هنا هو أنَّ اللهَ تعالى إن شاءَ كفَّ يدَ هذه الأسبابِ والقوانين فحالَ دونَ أن يكونَ بمقدورِها أن تفعلَ فِعلَها الذي خلقها لتفعله. فإذا كانت النارُ لا تملكُ إلا أن تُحرِقَ ما يُلقى فيها، فإنَّ ذلك عائدٌ إلى جملةٍ من الأسبابِ والقوانينِ التي جعلَها اللهُ تعالى تقفُ من وراءِ ذلك، فإن شاءَ اللهُ لم يُمكِّن لهذه الأسبابِ والقوانينِ أن تجعلَ النارَ تحرقُ ما يُلقى فيها، بتدخُّلٍ مباشرٍ من لدنه، وذلك بقولِه لها “كُونِي بَرْدًا وَسَلَامًا”: (قَالُوا حَرِّقُوهُ وَانْصُرُوا آلِهَتَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ فَاعِلِينَ. قُلْنَا يَا نَارُ كُونِي بَرْدًا وَسَلَامًا عَلَى إِبْرَاهِيمَ. وَأَرَادُوا بِهِ كَيْدًا فَجَعَلْنَاهُمُ الْأَخْسَرِينَ) (68- 70 الأنبياء). فوقائعُ الوجودِ وأحداثُه إذ تتحكَّمُ فيها تلكَ الأسبابُ والقوانينُ التي بثَّها اللهُ تعالى في هذا الوجود، فإنَّ هذه الأسبابَ والقوانين بدورِها محكومةٌ بأمرِ اللهِ تعالى الذي إن شاءَ أبقاها لتفعلَ فِعلَها الذي خُلقت لتفعله وإن شاءَ عطَّلها بأمرِه:
1- (أَتَى أَمْرُ اللَّهِ فَلَا تَسْتَعْجِلُوهُ) (من 1 النحل).
2- (إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ) (82 يس).
3- (وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ مَفْعُولًا) (من 47 النساء).
4- (وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ قَدَرًا مَقْدُورًا) (من 38 سورة الأحزاب).
5- (حَتَّى جَاءَ الْحَقُّ وَظَهَرَ أَمْرُ اللَّهِ) (من 48 التوبة).
6- (قَالُوا أَتَعْجَبِينَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ رَحْمَةُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ الْبَيْتِ إِنَّهُ حَمِيدٌ مَجِيدٌ) (73 هود).
7- (فَاعْفُوا وَاصْفَحُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ) (من 109 البقرة).
8- (فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ) (من 24 التوبة).
9- (وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ) (من 21 يوسف).
10- (إِنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ) (من 3 الطلاق).
11- (قَالَ لَا عَاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ إِلَّا مَنْ رَحِمَ) (من 43 هود).
12- (فَإِذَا جَاءَ أَمْرُ اللَّهِ قُضِيَ بِالْحَقِّ) (من 85 غافر).
يتبيَّنُ لنا، وبتدبُّرِ ما تقدَّم، أنَّ من أمرِ الله ما هو مُسبَّبٌ بأسبابٍ سبقَ وأن خلقَها اللهُ وسبَّبَ بها لوقائعِ الوجودِ وأحداثِه، وأنَّ من أمرِ اللهِ أيضاً ما يجيءُ ليُعطِّلَ من هذه الأسبابِ والقوانين ما يشاءُ الله “ليقضيَ أمراً كان مفعولا”.

اترك تعليقًا

إملأ الحقول أدناه بالمعلومات المناسبة أو إضغط على إحدى الأيقونات لتسجيل الدخول:

شعار ووردبريس.كوم

أنت تعلق بإستخدام حساب WordPress.com. تسجيل خروج   /  تغيير )

Facebook photo

أنت تعلق بإستخدام حساب Facebook. تسجيل خروج   /  تغيير )

Connecting to %s