في معنى قَولِ اللهِ تعالى “وَظَنُّوا أَنَّهُم مَّانِعَتُهُمْ حُصُونُهُم مِّنَ اللَّهِ فَأَتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا”

نقرأُ في سورةِ الحشر، وفي الآيةِ الكريمة 2 منها، قولَ اللهِ تعالى: (هُوَ الَّذِي أَخْرَجَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِنْ دِيَارِهِمْ لِأَوَّلِ الْحَشْرِ مَا ظَنَنْتُمْ أَنْ يَخْرُجُوا وَظَنُّوا أَنَّهُمْ مَانِعَتُهُمْ حُصُونُهُمْ مِنَ اللَّهِ فَأَتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُمْ بِأَيْدِيهِمْ وَأَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الْأَبْصَار). فما هو معنى “وَظَنُّوا أَنَّهُمْ مَانِعَتُهُمْ حُصُونُهُمْ مِنَ اللَّهِ فَأَتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا” في هذه الآيةِ الكريمة؟
يُخطِئُ مَن يظنُّ أنَّ وقائعَ العالَمِ وأحداثَه تجري وفقاً لِما بثَّهُ اللهُ تعالى فيه من قوانينَ وأسباب فحسب! فاللهُ تعالى قد بيَّنَ لنا الأمرَ وفصَّلَه في قرآنِه العظيم فلا حاجةَ لنا بعدَها لقولٍ يتعارضُ مع هذا الأمر. فإذا كان هذا العالَمُ محكوماً بأسبابِ اللهِ وقوانينِه، فإنَّ اللهَ تعالى هو المتحكِّمُ في هذه الأسبابِ والقوانين فإن شاءَ أجراها وإن شاءَ حالَ دونَ أن تفعلَ في العالَمِ ما خُلِقَت لتفعلَه. فالعالَمُ لن يعودَ العالمَ الذي نعرف إذا ما جاءَ أمرُ اللهِ:
1- (حَتَّى إِذَا جَاءَ أَمْرُنَا وَفَارَ التَّنُّورُ قُلْنَا احْمِلْ فِيهَا مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ وَأَهْلَكَ إِلَّا مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ وَمَنْ آمَنَ وَمَا آمَنَ مَعَهُ إِلَّا قَلِيلٌ) (40 هود).
2- (وَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا نَجَّيْنَا هُودًا وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَنَجَّيْنَاهُمْ مِنْ عَذَابٍ غَلِيظٍ) (58 هود).
3- (يَا إِبْرَاهِيمُ أَعْرِضْ عَنْ هَذَا إِنَّهُ قَدْ جَاءَ أَمْرُ رَبِّكَ وَإِنَّهُمْ آتِيهِمْ عَذَابٌ غَيْرُ مَرْدُود) (76 هود).
وأمرُ اللهِ إذا جاء فلا حاجةَ معه بعدها إلى التسبُّبِ بهذا السببِ أو ذاك ليتحقَّقَ هذا المرادُ أو ذاك: (وَمَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْهُمْ فَمَا أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ خَيْلٍ وَلَا رِكَابٍ وَلَكِنَّ اللَّهَ يُسَلِّطُ رُسُلَهُ عَلَى مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) (6 الحشر). صحيحٌ أنَّ هناك من وقائعِ العالَمِ ما أوجبَ اللهُ تعالى التذرُّعَ بالأسبابِ حتى يتحقق، غيرَ أنَّ هذا لا يلزمُ عنه وجوبُ ألا تكونَ هنالك أحداثٌ هي صنيعةَ فِعلِ اللهِ المبرَّءِ من القوانينِ والأسباب: (قُلْ هَلْ تَرَبَّصُونَ بِنَا إِلَّا إِحْدَى الْحُسْنَيَيْنِ وَنَحْنُ نَتَرَبَّصُ بِكُمْ أَنْ يُصِيبَكُمُ اللَّهُ بِعَذَابٍ مِنْ عِنْدِهِ أَوْ بِأَيْدِينَا) (من 52 التوبة).
فإذا كان اللهُ تعالى قد شرعَ “شِرعةَ المواجهة” وفصَّلَ العلةَ من وراءِ ذلك (وَلَوْ يَشَاءُ اللَّهُ لَانْتَصَرَ مِنْهُمْ وَلَكِنْ لِيَبْلُوَ بَعْضَكُمْ بِبَعْضٍ) (من 4 محمد)، فإنَّ اللهَ تعالى قادرٌ على أن ينتصرَ لمَن يشاءُ من عِبادِه فيكُفَّ بأسَ أعدائِهم بتدخُّلٍ مباشرٍ من لدنه دونما حاجةٍ لقوانينِ هذا العالم وأسبابِه: (وَرَدَّ اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِغَيْظِهِمْ لَمْ يَنَالُوا خَيْرًا وَكَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتَالَ وَكَانَ اللَّهُ قَوِيًّا عَزِيزًا) (25 الأحزاب)، (وَهُوَ الَّذِي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ عَنْهُمْ بِبَطْنِ مَكَّةَ مِنْ بَعْدِ أَنْ أَظْفَرَكُمْ عَلَيْهِمْ وَكَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرًا) (24 الفتح).
يُعينُنا تدبُّرُ ما تقدَّم على الإجابةِ على السؤال الذي تصدَّرَ هذا المنشور. فاللهُ تعالى هو الذي أتى الذين كفروا من أهلِ الكتاب من حيثُ لم يحتسبوا فجعلَهم عاجزين عن إعمالِ عقولِهم فحالَ بذلك دون أن يكونَ بمقدورِهم أن يتَّخذوا “قراراتِ الحرب” التي تكفلُ لهم النصرَ على من كانَ يحاصرهم فانتهى بهم الأمرُ بعدها إلى إعمالِ سيوفِهم في أنفسِهم فقتلَ بعضُهم بعضاً وشرَعوا بتخريبِ بيوتِهم وحصونِهم بأيديهم، كلُّ ذلك والذين آمنوا كانوا يرقبون من خارجِ الحصون غيرَ مصدِّقين ما تراهُ أعينُهم. فاللهُ تعالى هو الذي فتحَ للذين آمنوا حصونَ عدوِّهم دونما قتال، وذلك بتدخُّلٍ مباشرٍ من لدنه.

اترك تعليقًا

إملأ الحقول أدناه بالمعلومات المناسبة أو إضغط على إحدى الأيقونات لتسجيل الدخول:

شعار ووردبريس.كوم

أنت تعلق بإستخدام حساب WordPress.com. تسجيل خروج   /  تغيير )

Facebook photo

أنت تعلق بإستخدام حساب Facebook. تسجيل خروج   /  تغيير )

Connecting to %s