السبيلُ إلى قلبٍ مطمئنٍ بالإيمان

نقرأُ في سورةِ الرعد، وفي الآياتِ الكريمة 27- 29 منها، قولَ اللهِ تعالى: (قُلْ إِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ أَنَابَ. الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ. الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ طُوبَى لَهُمْ وَحُسْنُ مَآبٍ).
يتبيَّنُ لنا، وبتدبُّرِ هذه الآياتِ الكريمة، أنَّ السبيلَ إلى قلبٍ مطمئنٍ بالإيمان قائمٌ على أساسٍ مما فصَّلته هذه الآياتُ الكريمة وبيَّنته مما ينبغي أن يكونَ عليه حالُ العبدِ مع اللهِ تعالى إنابةً إليه وإيماناً به وعملاً صالحاً هو علامةُ دخولِ هذا الإيمان في القلب. واطمئنانُ القلبِ بالإيمانِ يمهِّدُ اللهُ تعالى لمَن آمنَ به السبيلَ إليه بما يُجلِّيه ويُظهِرُه في حياتِه من آثارِ فضلِه وتجلياتِ قدرتِه التي تُعجِزُ العقلَ عن التعليلِ لها بمنطقِهِ المستندِ إلى ما وقرَ لديه من اضطرادِ العلاقةِ بين السببِ والنتيجة، ومن وجوبِ خضوعِ الوجودِ لِما تأتَّى له أن يحيطَ به من قوانينِه. فالقلبُ السليمُ لا يملكُ غيرَ أن يُصبِحَ مطمئناً بالإيمان وهو ينظرُ حواليه فيرى من عجيبِ قدرةِ اللهِ وغريبِ أمرِه ما يضطرُّهُ إلى الإقرارِ والإيقانِ بأنَّ اللهَ حيٌّ فعالٌ لما يشاء وهو على كلِّ شيءٍ قدير. وهذا هو عينُ ما بوسعِنا أن نتبيَّنَه بتدبُّرِ الآياتِ الكريمةِ التالية:
1- (بَلَى إِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا وَيَأْتُوكُمْ مِنْ فَوْرِهِمْ هَذَا يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُمْ بِخَمْسَةِ آلَافٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ مُسَوِّمِينَ. وَمَا جَعَلَهُ اللَّهُ إِلَّا بُشْرَى لَكُمْ وَلِتَطْمَئِنَّ قُلُوبُكُمْ بِهِ وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ) (125- 126 آل عمران).
2- (إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ مُرْدِفِينَ. وَمَا جَعَلَهُ اللَّهُ إِلَّا بُشْرَى وَلِتَطْمَئِنَّ بِهِ قُلُوبُكُمْ وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ) (9- 10 الأنفال).
ولقد شخَّصَ سيدُنا إبراهيم هذا السبيلَ حتى يصبحَ قلبُه مطمئناً بالإيمان، وذلك بسؤالِه اللهَ تعالى أن يُرِيَه كيف يُحيي الموتى: (وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتَى قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قَالَ بَلَى وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي قَالَ فَخُذْ أَرْبَعَةً مِنَ الطَّيْرِ فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ ثُمَّ اجْعَلْ عَلَى كُلِّ جَبَلٍ مِنْهُنَّ جُزْءًا ثُمَّ ادْعُهُنَّ يَأْتِينَكَ سَعْيًا وَاعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ) (260 البقرة).
فقلبُ سيدِنا إبراهيمَ السليمُ ما كان له إلا أن يصبحَ مطمئناً بالإيمانِ باللهِ تعالى، وذلك من بعدِ أن تبيَّنَ لعقلِه السليم من آفاتِ النفسِ ونوازغِ الهوى، أنَّ اللهَ تعالى لن يُخلِفَ وعدَه بأنَّه جامعُ الناسِ ليومِ الحسابِ لا ريبَ فيه: (فَلَا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ مُخْلِفَ وَعْدِهِ رُسُلَهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ ذُو انْتِقَامٍ. يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ وَالسَّمَاوَاتُ وَبَرَزُوا لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ) (47- 48 إبراهيم).
ولذلك لم يجد سيدُنا عيسى ابنُ مريمَ بُداً من أن يستجيبَ سؤالَ الحواريين فيسألَ اللهَ تعالى أن يُنزِّلَ عليهم مائدةً من السماءِ، وذلك من بعدِ أن سبَّبوا لسؤالِهم الغريبِ هذا بـ “حتى تطمئنَّ قلوبُهم”: (إِذْ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ أَنْ يُنَزِّلَ عَلَيْنَا مَائِدَةً مِنَ السَّمَاءِ قَالَ اتَّقُوا اللَّهَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ. قَالُوا نُرِيدُ أَنْ نَأْكُلَ مِنْهَا وَتَطْمَئِنَّ قُلُوبُنَا وَنَعْلَمَ أَنْ قَدْ صَدَقْتَنَا وَنَكُونَ عَلَيْهَا مِنَ الشَّاهِدِينَ) (112- 113 المائدة).
ولذلك أيضاً كان اطمئنانُ القلبِ بالإيمانِ باللهِ تعالى لا قيامَ له إلا على أساسٍ من العزوفِ عن الدنيا والإقبالِ على الآخرةِ التي يريدُها الله: (مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِهِ إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَانِ وَلَكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْرًا فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِنَ اللَّهِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ. ذَلِكَ بِأَنَّهُمُ اسْتَحَبُّوا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا عَلَى الْآخِرَةِ وَأَنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ) (106- 107 النحل).
فحالُ مَن كان قلبُه مطمئناً بالإيمانِ، مع اللهِ تعالى، هو ليس كحالِ غيرِه من الناسِ من الذين شخَّصَهم قولُ اللهِ تعالى ” بِأَنَّهُمُ اسْتَحَبُّوا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا عَلَى الْآخِرَةِ”. فاستحبابُ الحياةِ الدنيا على الآخرةِ موجبٌ لقسوةِ القلبِ، ومحفِّزٌ على النفورِ من ذكرِ الآخرة، ومُفضٍ بالنتيجةِ إلى الفرارِ من اللهِ عِوَضَ الفرارِ إليه: (وَوَيْلٌ لِلْكَافِرِينَ مِنْ عَذَابٍ شَدِيدٍ. الَّذِينَ يَسْتَحِبُّونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا عَلَى الْآخِرَةِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَيَبْغُونَهَا عِوَجًا أُولَئِكَ فِي ضَلَالٍ بَعِيدٍ) (من 2- 3 إبراهيم).

اترك تعليقًا

إملأ الحقول أدناه بالمعلومات المناسبة أو إضغط على إحدى الأيقونات لتسجيل الدخول:

شعار ووردبريس.كوم

أنت تعلق بإستخدام حساب WordPress.com. تسجيل خروج   /  تغيير )

Facebook photo

أنت تعلق بإستخدام حساب Facebook. تسجيل خروج   /  تغيير )

Connecting to %s