
يُحكى أن جُحا أرادَ السفرَ مع ابنِه إلى مدينةٍ قريبة. فركبَ جحا وابنَه على ظهرِ الحمار سويةً، وعندما رآهما الناس لدى وصولِهما إلى أولِ قرية، استنكروا فِعلَهما ونعتوهما بعديمَي الرحمة، وذلك لأنهما كانا يركبان الحمار معاً وقد ظهرت على الحمارِ علاماتُ التعب. فحزنَ جحا لذلك وقرّر أن يركبَ هو الحمارَ وطلبَ من ابنه أن يجرَّه. وخلال سيرِهما دخلا قريةً أخرى، وعندما رأى الناسُ جحا على حمارِه وابنَه يجرُّه قالوا: يا لهذا الأبِ الظالم يستريحُ على ظهرِ حمارِه ويجعلُ ابنَه يشعرُ بالتعبِ من دونِ رأفةٍ أو رحمة. فتأثّر جحا بكلامِ أهلِ القرية، فقرّر النزولَ عن ظهرِ الحمار وطلبَ من ابنه أن يركبَه ويقوم هو بجَرِّ الحمار. حتى إذا وصلا قريةً أخرى وشاهد الناسُ جحا يقودُ الحمارَ وابنَه راكباً فوق الحمار، قالوا: يا لهذا الابنِ السيء يستريحُ فوق ظهرِ الحمار ويتركُ أباه منهكاً من التعب يسيرُ ويجرُّه. أخيراً قرّر جحا أن ينزلَ هو وابنُه عن ظهرِ الحمار وأن يكملا سفرَهما سيراً على الأقدام ويجرّا الحمار. وعندما وصلا قريةً أخرى فوجئا بأهلِها ينعتونهما بالأحمقَين، ويقولون: لماذا قاما بشراءِ الحمار وهما لا يركبانه بل يجرانه فقط!
تذكِّرُ حكايةُ “جُحا مع ابنِه والحمار” هذه بما يُضطرُّ إلى مكابدتِه كلُّ مَن تجشَّم عناءَ محاولةِ استرضاءِ الناس جميعاً! وتزدادُ بِلَّةُ الطينِ حتى يُمسيَ وحلاً زَلِقاً كلما اجتهدَ المرءُ في جعلَ خطابِه لا يُغضبُ من الناسِ أحداً! ولذلك فليس هنالك من سبيلٍ إلى حلِّ هذه الإشكاليةِ المعضلة إلا بأن لا يلتفت المرءُ إلى ما يقولُه الناسُ طالما كان أكثرُ الناسِ لا يتَّبعون إلا الظن، وذلك كما قالَ اللهُ تعالى في قرآنِه العظيم: (وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الْأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ) (116 الأنعام). ولذلك أمرَ اللهُ تعالى رسولَه الكريم صلَّى اللهُ تعالى عليه وسلَّم بأن يُعرِضَ عن الجاهلين: (خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ) (199 الأعراف).
فالإعراضُ عن الجاهلين إذاً هو ما يتوجَّبُ على كلِّ مَن يرومُ أن يقولَ الحقَّ القيامُ به حتى ولو كان ذلك سيجعله ممقوتاً من الآخرين منبوذاً، وذلك مصداقَ قولِ سيدنا علي بن أبي طالب كرَّم اللهُ تعالى وجهه: “وقدرُ كلِّ امرءٍ ما كان يُحسنُه والجاهلون لأهلِ العلمِ أعداءُ، ففُز بعلمٍ تعِش حياً به أبداً الناسُ موتى وأهلُ العِلمِ أحياءُ”.