خِيارُنا في الجاهليةِ خِيارُنا في الإسلامِ… ملكةُ سبأ مثالاً

حفظَ لنا القرآنُ العظيم جانباً من قصةِ ملكةِ سبأ مع سيدِنا سليمان، وذلك في سورةِ النمل. فلقد كان لسيدِنا سليمان، وفقاً لما أنبأنا به القرآنُ العظيم، هدهدٌ كان ينقلُ إليه أخبارَ الممالِكِ البعيدة. ولقد جاءَ هذا الهدهد سيدَنا سليمان يوماً بأنباءٍ لم يكن يعرفُها: (فَقَالَ أَحَطتُ بِمَا لَمْ تُحِطْ بِهِ وَجِئْتُكَ مِنْ سَبَإٍ بِنَبَإٍ يَقِينٍ. إِنِّي وَجَدْتُ امْرَأَةً تَمْلِكُهُمْ وَأُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ وَلَهَا عَرْشٌ عَظِيمٌ. وَجَدْتُهَا وَقَوْمَهَا يَسْجُدُونَ لِلشَّمْسِ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ فَهُمْ لَا يَهْتَدُونَ) (من 22- 24 النمل).
فما كان من سيدِنا سليمان غيرَ أن حمَّلَ الهدهدَ رسالةً مفادُها: (بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ. أَلَّا تَعْلُوا عَلَيَّ وَأْتُونِي مُسْلِمِينَ) (من 30- 31 النمل). فانطلقَ الهدهدُ من فورِه إلى سبأ فألقى الرسالةَ في حجرِ الملكةِ التي استدعت خواصَّها من أهلِ الرأي والمشورة: (قَالَتْ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ أَفْتُونِي فِي أَمْرِي مَا كُنْتُ قَاطِعَةً أَمْرًا حَتَّى تَشْهَدُونِ) (32 النمل). فلم يجد القومُ مخرجاً من هذا المأزق غيرَ أن يُبلِغوا الملكةَ بأنَّهم جاهزونَ للقتال: (قَالُوا نَحْنُ أُولُو قُوَّةٍ وَأُولُو بَأْسٍ شَدِيدٍ) (من 33 النمل). غيرَ أنَّهم استدركوا فأتبعوا فقالوا: (وَالْأَمْرُ إِلَيْكِ فَانْظُرِي مَاذَا تَأْمُرِين) (من 33 النمل). فالقومُ كانوا يعلمونَ بما كان لملكتِهم من قولٍ رشيدٍ وحكمٍ سديد. وهذا هو عينُ ما تجلَّى بعدها بقليل، إذ أبلغتهم الملكةُ بحقيقةٍ لا ينبغي التغافلُ عنها مفادُها: (إِنَّ الْمُلُوكَ إِذَا دَخَلُوا قَرْيَةً أَفْسَدُوهَا وَجَعَلُوا أَعِزَّةَ أَهْلِهَا أَذِلَّةً وَكَذَلِكَ يَفْعَلُون) (من 34 النمل). ثم أتبعَت فأضافت بما ظنَّت أنَّه كافٍ ليكُفَّ بأسَ سيدِنا سليمان فيجعلَه يعدلُ عما كانت تتخوَّفُ منه: (وَإِنِّي مُرْسِلَةٌ إِلَيْهِمْ بِهَدِيَّةٍ فَنَاظِرَةٌ بِمَ يَرْجِعُ الْمُرْسَلُونَ) (35 النمل).
إنَّ تدبُّرَ ما صدرَ عن ملكةِ سبأ من قولٍ، وهي لما تكن قد أسلمت مع سيدِنا سليمان للهِ ربِّ العالمين بعد، لَيُذكِّرُنا بحديثِ رسولِ الله صلَّى اللهُ تعالى عليه وسلَّم: “خِيارُكُمْ في الجاهليةِ خِيارُكُمْ في الإسلامِ”. ولنا أن نتخيَّلَ ما كان سيؤولُ إليه الأمرُ لو أنَّ الملكةَ أصغت لِما أشارَ به عليها خواصُّها ومستشاروها! فاللهُ تعالى كان قد أيَّدَ سيدَنا سليمان بجنودٍ لا قِبَلَ لبشرٍ، من أولِ الزمان لآخره، بها: (فَلَنَأْتِيَنَّهُمْ بِجُنُودٍ لَا قِبَلَ لَهُمْ بِهَا وَلَنُخْرِجَنَّهُمْ مِنْهَا أَذِلَّةً وَهُمْ صَاغِرُون) (من 37 النمل). فلذلك لم يكن بالمستغربِ أن تتوجَّهَ ملكةُ سبأ من اليمنِ إلى فلسطين درءاً لفتنةِ الحربِ وسعياً لعقدِ الصُّلحِ مع سيدِنا سليمان وتبيُّناً لحقيقةِ ما كان يُشاعُ حولَه من حكاياتٍ هي أشبهُ بالأساطير: (قَالَ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ أَيُّكُمْ يَأْتِينِي بِعَرْشِهَا قَبْلَ أَنْ يَأْتُونِي مُسْلِمِينَ) (38 النمل).
ولم يكن بالمستغربِ أيضاً أن تُشهِرَ الملكةُ إسلامَها بعدما تبيَّنَ لها أنَّ ما رأته من عجائبِ الأمورِ وغرائبِها ما أن التقت سيدَنا سليمان لا يمكنُ أن يُنبئَ إلا بأنَّه رسولٌ مُرسَلٌ من اللهِ حقاً: (قِيلَ لَهَا ادْخُلِي الصَّرْحَ فَلَمَّا رَأَتْهُ حَسِبَتْهُ لُجَّةً وَكَشَفَتْ عَنْ سَاقَيْهَا قَالَ إِنَّهُ صَرْحٌ مُمَرَّدٌ مِنْ قَوَارِيرَ قَالَتْ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي وَأَسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمَانَ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ) (44 النمل).
وصدقَ رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ تعالى عليه وسلَّم الذي بيَّنَ لنا، بقولٍ بليغٍ وبحكمةٍ بالغة، ما يكفلُ لنا أن نفقهَ العلةَ من وراءِ مسارعةِ ملكةِ سبأ إلى إشهارِ إسلامِها على مرأى ومسمعٍ من خواصِّها ومستشاريها وأشرافِ قومِها غيرَ آبهةٍ بأيِّ شيءٍ مما كان ليحسبَ آخرونَ له ألفَ ألفَ حساب قبلَ أن يفعلوا فِعلتَها التي فعلت، وما أمرُ فرعونَ منا ببعيد وهو الذي جاءته تسعٌ من آياتِ اللهِ الكبرى فجحدَ بها من بعد أن استيقنتها نفسُه وتبيَّنَ له أنَّها من عندِ اللهِ الذي دعاهُ إلى الإيمانِ به سيدُنا موسى: (فِي تِسْعِ آيَاتٍ إِلَى فِرْعَوْنَ وَقَوْمِهِ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا فَاسِقِينَ. فَلَمَّا جَاءَتْهُمْ آيَاتُنَا مُبْصِرَةً قَالُوا هَذَا سِحْرٌ مُبِينٌ. وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ) (من 12- 14 النمل).

اترك تعليقًا

إملأ الحقول أدناه بالمعلومات المناسبة أو إضغط على إحدى الأيقونات لتسجيل الدخول:

شعار ووردبريس.كوم

أنت تعلق بإستخدام حساب WordPress.com. تسجيل خروج   /  تغيير )

Facebook photo

أنت تعلق بإستخدام حساب Facebook. تسجيل خروج   /  تغيير )

Connecting to %s