
نقرأُ في سورةِ فاطر، وفي الآيتَين الكريمتَين 27- 28 منها، قولَ اللهِ تعالى: (أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ ثَمَرَاتٍ مُخْتَلِفًا أَلْوَانُهَا وَمِنَ الْجِبَالِ جُدَدٌ بِيضٌ وَحُمْرٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهَا وَغَرَابِيبُ سُودٌ. وَمِنَ النَّاسِ وَالدَّوَابِّ وَالْأَنْعَامِ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ كَذَلِكَ إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ غَفُور). فما هو معنى قولِ اللهِ تعالى “إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ”؟
يُعينُ على تبيُّنِ هذا المعنى أن نُجيبَ على الأسئلةِ التالية: “مَن هم هؤلاءِ العلماءُ الذين يخشونَ اللهَ تعالى حقَّ خشيتِه ويخافونَه حقَّ مخافتِه ويتَّقونَه حقَّ تُقاتِه؟”، “وهل هُم علماءُ الفيزياء والبايولوجيا والكيمياء والرياضياتِ وغيرِها من العلوم؟”، “أَم هُم علماءُ الدين الذين أجادوا تعلُّمَ كلِّ ما هو ذو صلةٍ بكتابِ اللهِ تعالى وحديثِ رسولِه صلَّى اللهُ تعالى عليه وسلَّم من علومٍ توارثوها عمَّن سبقَهم؟”.
يتكفَّلُ بالإجابةِ على هذه الأسئلةِ كلِّها جميعاً أن نستذكرَ الحقيقةَ القرآنيةَ التي مفادُها أنَّ اللهَ تعالى قد حدَّدَ لنا في سورةِ آلِ عِمران مَن هم هؤلاء “العلماء” وذلك في موطنَين منها:
الموطنُ الأول: (وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ. رَبَّنَا لَا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ. رَبَّنَا إِنَّكَ جَامِعُ النَّاسِ لِيَوْمٍ لَا رَيْبَ فِيهِ إِنَّ اللَّهَ لَا يُخْلِفُ الْمِيعَادَ) (من 7- 9 آل عمران). يتبيَّنُ لنا بتدبُّرِ هذه الآياتِ الكريمة أنَّ “العلماءَ” هم أولو الألباب الراسخون في العلم الذين آمنوا بالقرآنِ كلِّه مُحكَمِه ومُتشابهِه، الذي اختصَّ اللهُ تعالى بتأويلِه نفسَه فلم يُطلِع عليه أحداً من خَلقِه، وهم الذين آمنوا بأنَّ اللهَ تعالى جامعُ الناسِ ليومِ القيامةِ لا ريبَ فيه.
والموطنُ الثاني: (إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآيَاتٍ لِأُولِي الْأَلْبَابِ. الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلًا سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ. رَبَّنَا إِنَّكَ مَنْ تُدْخِلِ النَّارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ. رَبَّنَا إِنَّنَا سَمِعْنَا مُنَادِيًا يُنَادِي لِلْإِيمَانِ أَنْ آمِنُوا بِرَبِّكُمْ فَآمَنَّا رَبَّنَا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَكَفِّرْ عَنَّا سَيِّئَاتِنَا وَتَوَفَّنَا مَعَ الْأَبْرَار. ِرَبَّنَا وَآتِنَا مَا وَعَدْتَنَا عَلَى رُسُلِكَ وَلَا تُخْزِنَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّكَ لَا تُخْلِفُ الْمِيعَادَ) (190- 194 آل عِمران). فتدبُّرُ هذه الآياتِ الكريمة يُبيِّنُ لنا أنَّ “العلماءَ” هم أولو الألباب الذين يذكرونَ اللهَ ذِكراً كثيراً فلا يكادُ واحدُهم يفارقُ ذكرَه، وهم الذين انتهى بهم تفكُّرُهم في خلقِ السمواتِ والأرضِ إلى الإيقانِ بأنَّ اللهَ تعالى ما خلقَهن إلا بالحق وأجلٍ مسمى، وأنَّ نارَ جهنم حقيقةٌ إن هي لم تكن ماثلةً للعِيانِ في هذه الحياةِ الدنيا فهي حتماً بانتظارِ كلِّ مَن لم يؤمن بها وبكونِها مصيرَ كلِّ مَن أنكرَها وشكَّكَ فيها.
يتبيَّنُ لنا، وبتدبُّرِ ما تقدَّم، أنَّ “العلماءَ” المقصودين بقولِه تعالى “إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ” هُم كلُّ مَن كان حالُهم مع اللهِ تعالى لا يحيدُ قيدِ أُنمُلة عن حالِ الذين وصفَهم اللهُ تعالى في قرآنِه العظيم بأنَّهم “أولو الألباب”، ويستوي في ذلك مَن كان عالِماً فيزيائياً أو كيميائياً أو رياضياً أو دينياً أو مَن كان من عامةِ الناسِ لا يعلمُ إلا حقيقةً واحدةً ألزمَ نفسَه بالعملِ بما يوجبُه عليه تدبُّرُها. وهذه الحقيقةُ هي ما فصَّله وبيَّنُه قولُ اللهِ تعالى في الآيةِ الكريمة 87 من سورةِ النساء: (اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لَا رَيْبَ فِيهِ وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ حَدِيثًا).