
نقرأُ في سورةِ الحاقة، وفي الآيتَين الكريمتَين 11- 12 منها، قَولَ اللهِ تعالى: (إِنَّا لَمَّا طَغَى الْمَاءُ حَمَلْنَاكُمْ فِي الْجَارِيَةِ. لِنَجْعَلَهَا لَكُمْ تَذْكِرَةً وَتَعِيَهَا أُذُنٌ وَاعِيَةٌ). فاللهُ تعالى هو الذي أمرَ الماءَ بالطغيان فكان الطُّوفان: (وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ فَلَبِثَ فِيهِمْ أَلْفَ سَنَةٍ إِلَّا خَمْسِينَ عَامًا فَأَخَذَهُمُ الطُّوفَانُ وَهُمْ ظَالِمُونَ) (14 العنكبوت).
وماءُ الطُّوفانِ كان مزيجاً من ماءِ السماءِ المنهمِر بإذنِ الله وينابيعِ الأرضِ التي فجَّرها اللهُ عيوناً: (فَدَعَا رَبَّهُ أَنِّي مَغْلُوبٌ فَانْتَصِرْ. فَفَتَحْنَا أَبْوَابَ السَّمَاءِ بِمَاءٍ مُنْهَمِرٍ. وَفَجَّرْنَا الْأَرْضَ عُيُونًا فَالْتَقَى الْمَاءُ عَلَى أَمْرٍ قَدْ قُدِرَ. وَحَمَلْنَاهُ عَلَى ذَاتِ أَلْوَاحٍ وَدُسُرٍ) (10- 13 القمر). فماءُ السماءِ وماءُ الأرضِ ما كان لأيٍّ منهما أن يطغى إلا بإذنِ اللهِ الذي قدَّرَ لهما أن يلتقيا ليُصبحا طُوفاناً عارماً عمَّ الأرضَ التي بالغَ كثيرٌ منا في تقديرِ مساحتِها فبلغَ به الظنُّ مبلغاً ما أنزلَ اللهُ به من سلطان! فالأرضُ التي طغى عليها “طُوفانُ الله” لم تكن الأرضَ بقاراتِها السبع، وإنما كانت الأرضَ التي بوسعِنا أن نتبيَّنَ مساحتَها بتدبُّرِ الآيةِ الكريمة 44 من سورةِ هود: (وَقِيلَ يَا أَرْضُ ابْلَعِي مَاءَكِ وَيَا سَمَاءُ أَقْلِعِي وَغِيضَ الْمَاءُ وَقُضِيَ الْأَمْرُ وَاسْتَوَتْ عَلَى الْجُودِيِّ وَقِيلَ بُعْدًا لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ).
فمساحةُ الأرضِ التي طغى عليها “طُوفانُ الله” لم تكن لتتجاوزَ المنطقةَ الجغرافيةَ الممتدة من جبالِ عُمان جنوباً وحتى جبالِ القفقاس شمالاً، ومن جبالِ فارس المطلة على بحرِ قزوين شرقاً وحتى جبالِ الحِجازِ وجبالِ سيناء غرباً. وهذه حقيقةٌ يشهدُ لها بأنَّها كذلك تدبُّرُ المأثورِ الشعبي، المكتوبِ والشفاهي، لشعوبِ هذه المساحةِ الجغرافية. كما ويشهدُ لها تذكُّرُ الحقيقةِ التي مفادُها أنَّ كلمةَ “الأرض” في القرآنِ العظيم تردُ بمعانٍ عدة. ومن هذه المعاني ما هو ذو صلةٍ بالبقعةِ التي جرت عليها الوقائعُ والأحداثُ الخاصةُ بأنبياءِ اللهِ المُرسَلين، ومنها على سبيلِ المثال:
1- (وَقَالَ نُوحٌ رَبِّ لَا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّارًا. إِنَّكَ إِنْ تَذَرْهُمْ يُضِلُّوا عِبَادَكَ وَلَا يَلِدُوا إِلَّا فَاجِرًا كَفَّارًا) (26- 27 نوح).
2- (إِنْ تُرِيدُ إِلَّا أَنْ تَكُونَ جَبَّارًا فِي الْأَرْضِ وَمَا تُرِيدُ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْمُصْلِحِينَ) (من 19 القصص)
3- (إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلَا فِي الْأَرْضِ) من 4 القصص).
4- (وَكَذَلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الْأَرْضِ)(من 21 يوسف)
5- (فَلَنْ أَبْرَحَ الْأَرْضَ حَتَّى يَأْذَنَ لِي أَبِي أَوْ يَحْكُمَ اللَّهُ لِي وَهُوَ خَيْرُ الْحَاكِمِينَ) (من 80 يوسف).
6- (أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ) (من 109 يوسف).
7- (وَلَنُسْكِنَنَّكُمُ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِهِمْ) (من 14 إبراهيم).
8- (أَفَأَمِنَ الَّذِينَ مَكَرُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ يَخْسِفَ اللَّهُ بِهِمُ الْأَرْضَ) (من 45 النحل).
9- (وَلَا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحًا) (من 37الإسراء).