في معنى قَولِ اللهِ تعالى “فَلَمَّا جَاءَهُمُ الْحَقُّ مِنْ عِنْدِنَا قَالُوا إِنَّ هَٰذَا لَسِحْرٌ مُبِينٌ”

نقرأُ في سورةِ يونس، وفي الآيتَين الكريمتَين 75- 76 منها، قَولَ اللهِ تعالى: (ثُمَّ بَعَثْنَا مِنْ بَعْدِهِمْ مُوسَى وَهَارُونَ إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ بِآيَاتِنَا فَاسْتَكْبَرُوا وَكَانُوا قَوْمًا مُجْرِمِينَ. فَلَمَّا جَاءَهُمُ الْحَقُّ مِنْ عِنْدِنَا قَالُوا إِنَّ هَذَا لَسِحْرٌ مُبِينٌ). فما هو معنى قولَ اللهِ تعالى “فَلَمَّا جَاءَهُمُ الْحَقُّ مِنْ عِنْدِنَا قَالُوا إِنَّ هَذَا لَسِحْرٌ مُبِينٌ”؟
يُعينُ على تبيُّنِ هذا المعنى أن نستذكرَ جملةً من الحقائقِ التي كشفَ لنا النقابَ عنها قرآنُ اللهِ العظيم:
الحقيقةُ الأولى: السحرُ ظاهرةٌ تعتمدُ التضليلَ والإيهامَ وهي في حقيقتِها باطلٌ لا أساسَ له من الصحة، وبالتالي فالسحرُ لا يُنبِئُ بما يمتُّ للحقيقةِ بِصِلة: (فَلَمَّا أَلْقَوْا سَحَرُوا أَعْيُنَ النَّاسِ وَاسْتَرْهَبُوهُمْ وَجَاءُوا بِسِحْرٍ عَظِيم) (من 116 الأعراف). وهذا “السحرُ العظيم” هو ليس “السحرَ” الذي يمارسُه صانعوا ما يُسمى بـ “الألعابِ السحرية”. فـ “السحرُ العظيم” الذي يُحدِّثُنا عنه قرآنُ اللهِ العظيم هو علمٌ غيرُ بشري ما كان للإنسانِ أن يُحيطَ به لولا شياطينُ الجِن الذين هم أولُ مَن علَّم الناسَ أصولَ هذا “العلم” وطرائقَه: (وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ وَمَا أُنْزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ بِبَابِلَ هَارُوتَ وَمَارُوتَ) (من 102 البقرة). وهذا السحرُ باطلٌ، ولأنه كذلك فهو لا يملكُ أن يصمدَ في وجهِ الحقِّ الذي يؤيِّدُ اللهُ تعالى به أنبياءَه المُرسَلين: (فَلَمَّا أَلْقَوْا قَالَ مُوسَى مَا جِئْتُمْ بِهِ السِّحْرُ إِنَّ اللَّهَ سَيُبْطِلُهُ إِنَّ اللَّهَ لَا يُصْلِحُ عَمَلَ الْمُفْسِدِين. وَيُحِقُّ اللَّهُ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ) (81- 82 يونس).
الحقيقةُ الثانية: أيَّدَ اللهُ تعالى أنبياءَه المُرسَلين بالمعجزاتِ وخوارقِ العاداتِ وغيرِها من تجلياتِ “كُن فيكون”. ولأنَّ الإنسانَ مجبولٌ على إعمالِ عقلِه فيما لا قدرةَ له على التعاملِ معه، فلقد توهَّم أن هذه المعجزاتِ هي لا شيءَ أكثرَ من السحرِ الذي يمارسُه السحرة:
1- (فَلَمَّا جَاءَتْهُمْ آيَاتُنَا مُبْصِرَةً قَالُوا هَذَا سِحْرٌ مُبِينٌ) (13 النمل).
2- (قَالَ آمَنْتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الَّذِي عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ) (71 طه).
3- (وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ قَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُمْ هَذَا سِحْرٌ مُبِين) (7 الأحقاف).
4- (قَالَ أَجِئْتَنَا لِتُخْرِجَنَا مِنْ أَرْضِنَا بِسِحْرِكَ يَا مُوسَى. فَلَنَأْتِيَنَّكَ بِسِحْرٍ مِثْلِهِ) (57- من 58 طه).
5- (فَلَمَّا جَاءَهُمْ مُوسَى بِآيَاتِنَا بَيِّنَاتٍ قَالُوا مَا هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُفْتَرًى وَمَا سَمِعْنَا بِهَذَا فِي آبَائِنَا الْأَوَّلِينَ) (36 القصص).
6- (وَإِذْ كَفَفْتُ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَنْكَ إِذْ جِئْتَهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ) (من 110 المائدة).
7- (وَإِذْ قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَمُبَشِّرًا بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ فَلَمَّا جَاءَهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ قَالُوا هَذَا سِحْرٌ مُبِينٌ) (6 الصف).
8- (وَلَوْ نَزَّلْنَا عَلَيْكَ كِتَابًا فِي قِرْطَاسٍ فَلَمَسُوهُ بِأَيْدِيهِمْ لَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ) (7 الأنعام).
9- (اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ. وَإِنْ يَرَوْا آيَةً يُعْرِضُوا وَيَقُولُوا سِحْرٌ مُسْتَمِرٌّ) (1- 2 القمر).
الحقيقةُ الثالثة: وإذا كان الإنسانُ لم يقدِر المعجزاتِ وخوارقَ العادات، وغيرَها من تجلياتِ “كن فيكون”، حقَّ قدرِها، إذ وصفَها بأنَّها لا أكثرَ من “سحرٍ مبين”، فإنَّ كتابَ اللهِ تعالى، الذي أنزلَه توراةً وزبوراً وإنجيلاً وقرآناً، قد وصفه هذا الإنسانُ بالتوصيفِ ذاتِه فقال عنه بأنه هو الآخرُ “سحرٌ مبين”:
1- (وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ قَالُوا مَا هَذَا إِلَّا رَجُلٌ يُرِيدُ أَنْ يَصُدَّكُمْ عَمَّا كَانَ يَعْبُدُ آبَاؤُكُمْ وَقَالُوا مَا هَذَا إِلَّا إِفْكٌ مُفْتَرًى وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُمْ إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ) (43 سبأ).
2- (بَلْ مَتَّعْتُ هَؤُلَاءِ وَآبَاءَهُمْ حَتَّى جَاءَهُمُ الْحَقُّ وَرَسُولٌ مُبِينٌ. وَلَمَّا جَاءَهُمُ الْحَقُّ قَالُوا هَذَا سِحْرٌ وَإِنَّا بِهِ كَافِرُونَ. وَقَالُوا لَوْلَا نُزِّلَ هَذَا الْقُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ) (29- 31 الزخرف).
3- (إِنَّهُ فَكَّرَ وَقَدَّرَ. فَقُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ. ثُمَّ قُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ. ثُمَّ نَظَرَ. ثُمَّ عَبَسَ وَبَسَرَ. ثُمَّ أَدْبَرَ وَاسْتَكْبَرَ. فَقَالَ إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ يُؤْثَرُ. إِنْ هَذَا إِلَّا قَوْلُ الْبَشَرِ) (18- 25 المدثر).
4- (اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسَابُهُمْ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ مُعْرِضُونَ. مَا يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنْ رَبِّهِمْ مُحْدَثٍ إِلَّا اسْتَمَعُوهُ وَهُمْ يَلْعَبُونَ. لَاهِيَةً قُلُوبُهُمْ وَأَسَرُّوا النَّجْوَى الَّذِينَ ظَلَمُوا هَلْ هَذَا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ أَفَتَأْتُونَ السِّحْرَ وَأَنْتُمْ تُبْصِرُونَ) (1- 3 الأنبياء).
الحقيقةُ الرابعة: وهذا هو عينُ ما وصفَ به الإنسانُ بعثَ اللهِ تعالى للموتى يومَ القيامة! فبعثُ الموتى عند الإنسانِ هو لا أكثرَ من “سحرٍ مبين”:
1- (بَلْ عَجِبْتَ وَيَسْخَرُونَ. وَإِذَا ذُكِّرُوا لَا يَذْكُرُونَ. وَإِذَا رَأَوْا آيَةً يَسْتَسْخِرُونَ. وَقَالُوا إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ. أَئِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا وَعِظَامًا أَئِنَّا لَمَبْعُوثُونَ. أَوَآبَاؤُنَا الْأَوَّلُونَ) (12- 17 الصافات).
2- (فَوَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ. الَّذِينَ هُمْ فِي خَوْضٍ يَلْعَبُونَ. يَوْمَ يُدَعُّونَ إِلَى نَارِ جَهَنَّمَ دَعًّا. هَذِهِ النَّارُ الَّتِي كُنْتُمْ بِهَا تُكَذِّبُونَ. أَفَسِحْرٌ هَذَا أَمْ أَنْتُمْ لَا تُبْصِرُون) (11- 15 الطور).
3- (وَلَئِنْ قُلْتَ إِنَّكُمْ مَبْعُوثُونَ مِنْ بَعْدِ الْمَوْتِ لَيَقُولَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ) (من 7 هود).
يتبيَّنُ لنا، وبتدبُّرِ ما تقدَّم، أنَّ قومَ فرعونَ إنما كانوا يصِفونِ ما أراهم اللهُ تعالى إياه على يدِ سيدِنا موسى من آياتِه الكبرى بأنه لا أكثرَ من “سحرٍ مبين”. وهذا هو المعنى الذي ينطوي عليه قولُ اللهِ تعالى “فَلَمَّا جَاءَهُمُ الْحَقُّ مِنْ عِنْدِنَا قَالُوا إِنَّ هَٰذَا لَسِحْرٌ مُبِينٌ”.

اترك تعليقًا

إملأ الحقول أدناه بالمعلومات المناسبة أو إضغط على إحدى الأيقونات لتسجيل الدخول:

شعار ووردبريس.كوم

أنت تعلق بإستخدام حساب WordPress.com. تسجيل خروج   /  تغيير )

صورة تويتر

أنت تعلق بإستخدام حساب Twitter. تسجيل خروج   /  تغيير )

Facebook photo

أنت تعلق بإستخدام حساب Facebook. تسجيل خروج   /  تغيير )

Connecting to %s