
نقرأُ في سورةِ الإسراء، وفي الآيةِ الكريمة 44 منها، قَولَ اللهِ تعالى: (تُسَبِّحُ لَهُ السَّمَاوَاتُ السَّبْعُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ لَا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا). فما هو معنى “وَلَكِنْ لَا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ” في هذه الآيةِ الكريمة؟
يُعينُ على تبيُّنِ الإجابةِ على هذا السؤال أن نستذكرَ الآياتِ الكريمةَ التالية:
1- (وَقَدْ كَانَ فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَسْمَعُونَ كَلَامَ اللَّهِ ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ مِنْ بَعْدِ مَا عَقَلُوهُ وَهُمْ يَعْلَمُونَ) (من 75 البقرة).
3- (وَلَهُمْ آذَانٌ لَا يَسْمَعُونَ بِهَا) (من 179 الأعراف).
فاللهُ تعالى خلقَنا وأنعمَ علينا بنعمةِ السمعِ والإبصار:
1- (وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ) (من 78 النحل).
2- (قُلْ هُوَ الَّذِي أَنْشَأَكُمْ وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ قَلِيلًا مَا تَشْكُرُونَ) (23 المُلك).
فاللهُ تعالى أنعمَ علينا بنعمةِ السمع، وهي نعمةٌ ما قدرناها حقَّ قدرِها. واللهُ تعالى زوَّدَ الإنسانَ بأذُنين حدَّدَ لهما “طيفاً سمعياً” ما كان للإنسانِ لولاه أن يصمدَ في عالمٍ يضجُّ بما ليس باليسيرِ إحصاؤه من أصواتِ المخلوقات!
و”السمعُ” في القرآنِ العظيم هو غيرُ “الفقه” و”الفهم” اللذين اختصَّ اللهُ تعالى بهما القلوبَ والأفهام. والقلوبُ قد يطبعُ اللهُ تعالى عليها فيجعلُها عاجزةً عن “فقهِ الحديث” وفهمه:
1- (وَطُبِعَ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لَا يَفْقَهُونَ) (من 87 التوبة).
2- (لَهُمْ قُلُوبٌ لَا يَفْقَهُونَ بِهَا) (من 179 الأعراف).
3- (فَمَالِ هَؤُلَاءِ الْقَوْمِ لَا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثًا) (من 78 النساء).
والأفهامُ إذ تعجزُ عن “فقهِ القَولِ” وفهمِه، فما ذلك إلا لأنَّ المُحدِّثَ يخاطبُها بغيرِ اللسانِ الذي تعرفُه. ومن ذلك ما قصَّهُ علينا قرآنُ اللهِ العظيمُ من أنباءِ ذي القرنينِ إذ وجدَ في ترحالِهِ وتجوالِه قوماً لم يكن بمقدورِهم أن يتبيَّنوا مما كان يقولُه لهم شيئاً: (حَتَّى إِذَا بَلَغَ بَيْنَ السَّدَّيْنِ وَجَدَ مِنْ دُونِهِمَا قَوْمًا لَا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ قَوْلًا) (93 الكهف).
يتبيَّنُ لنا، وبتدبُّرِ ما تقدَّم، أنَّ اللهَ تعالى إذ خلقَ الإنسانَ بأذُنين حدَّدَ لهما “طيفاً سمعياً” محدوداً، ليس بمقدورِ الإنسانِ أن يسمعَ ما دونَه وما فوقَه، وأنَّ اللهَ تعالى إذ خلقَ الأشياءَ وجعلَها تُسبِّحُ بحمدِه، فإنَّه لم يجعل فقهَ هذا التسبيحِ وفهمَه مستعصياً على مَن أنعمَ عليهِ من عظيمِ فضلِه ما يسَّرَ له ذلك! فسيدُنا داود كان يسمعُ للجبالِ والطيرِ وهي تسبِّحُ بحمدِ اللهِ تعالى: (وَسَخَّرْنَا مَعَ دَاوُدَ الْجِبَالَ يُسَبِّحْنَ وَالطَّيْرَ وَكُنَّا فَاعِلِينَ) (من 79 الأنبياء)، (وَاذْكُرْ عَبْدَنَا دَاوُدَ ذَا الْأَيْدِ إِنَّهُ أَوَّابٌ. إِنَّا سَخَّرْنَا الْجِبَالَ مَعَهُ يُسَبِّحْنَ بِالْعَشِيِّ وَالْإِشْرَاقِ. وَالطَّيْرَ مَحْشُورَةً كُلٌّ لَهُ أَوَّابٌ) (17- 19 ص).
فإذا كان الإنسانُ “الطبيعي” عاجزاً عن فقهِ وفهمِ تسبيحِ الأشياء، فإنَّ ذلك لا ينبغي أن يجعلَنا نسارعُ إلى القولِ بأنَّ هذا هو قدَرُ كلِّ “إنسان”! فمن البشرِ مَن أنعمَ اللهُ تعالى عليه فجعلَ بمقدورِه فقهُ ما يقولُه النملُ: (حَتَّى إِذَا أَتَوْا عَلَى وَادِي النَّمْلِ قَالَتْ نَمْلَةٌ يَا أَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَسَاكِنَكُمْ لَا يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمَانُ وَجُنُودُهُ وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ. فَتَبَسَّمَ ضَاحِكًا مِنْ قَوْلِهَا وَقَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحًا تَرْضَاهُ وَأَدْخِلْنِي بِرَحْمَتِكَ فِي عِبَادِكَ الصَّالِحِينَ) (18- 19 النمل). فسيدُنا سليمان لم يسمع بأذُنيه ما كانت تقولُه النملةُ لأُمَّتِها، ولكنَّ اللهَ تعالى يسَّرَ له فقهَ وفهمَ ذلك.