في معنى قَولِ اللهِ تعالى “وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ إِلَيْكُمُ الْكِتَابَ مُفَصَّلًا”

نقرأُ في سورةِ الأنعام، وفي الآيةِ الكريمة 114 منها، قَولَ اللهِ تعالى: (وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ إِلَيْكُمُ الْكِتَابَ مُفَصَّلًا). فما هو معنى قولِ اللهِ الكريمِ هذا؟
يُعينُ على تبيُّنِ هذا المعنى أن نستذكرَ الحقيقةَ القرآنيةَ التي مفادُها أنَّ اللهَ تعالى قد فصَّلَ آياتِ قرآنِه العظيم، وذلك من بعدِ إحكامِهِ لها وبما يجعلُها “مُحكمةً” لا يملكُ مَن يحتكمُ إليها، فيتدبَّرُها، غير أن يُقِرَّ بأنَّ هذا القرآنَ لا يمكنُ أن يكونَ من عندِ غيرِ الله: (الر كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ) (1 هود).
فإحكامُ اللهِ لآياتِه قد أتبعَهُ تفصيلٌ لها هو تِبيانٌ لمُرادِ الله بها: (كِتَابٌ فُصِّلَتْ آيَاتُهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ) (3 فُصِّلت).
فاللهُ تعالى فصَّلَ آياتِ قرآنِه العظيم تفصيلاً يُمكِّنُ متدبِّرَها من أن يتبيَّنَ المعنى الذي تشتملُ عليه فلا يختلطُ عليه الأمرُ فيتوهَّمُ ما هو ليس مرادَ اللهِ بها: (وَهَذَا صِرَاطُ رَبِّكَ مُسْتَقِيمًا قَدْ فَصَّلْنَا الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَذَّكَّرُونَ) (من 126 الأنعام).
ولقد بيَّنَ اللهُ تعالى مُرادَه هذا ففصَّلَه وبما يُعينُ متدبِّرَ آياتِ قرآنِه على أن يتبيَّنَها على الوجهِ الذي لا يُخالطُهُ ما يجعلُ الأمورَ تختلطُ عليه: (قَدْ فَصَّلْنَا الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ) (من 97 الأنعام)، (قَدْ فَصَّلْنَا الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَفْقَهُون) (من 98 الأنعام). ويتبيَّنُ لنا بتدبُّرِ هاتين الآيتَين الكريمتَين أنَّ تفصيلَ اللهِ تعالى هذا مشروطٌ وبما يجعلُ الأمرَ مقصوراً على مَن يتدبَّرُ القرآنَ تدبُّرَ الذين يعلمونَ والذين يفقهون.
وتفصيلُ اللهِ تعالى لآياتِ قرآنِه العظيم، تبياناً لها وتبييناً، أمرٌ لا يسَعُ متدبِّرُها غيرَ أن يُقِرَّ بأنَّها تشهدُ أنَّ هذا القرآنَ لا يمكنُ أن يكونَ من عندِ غيرِ الله، وذلك شريطةَ أن يقومَ تدبُّرُه لها على أساسٍ من صدقِ التوجُّهِ إلى الله: (كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ) (من 24 يونس)، (كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ) (من 28 الروم)، (وَكَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ وَلَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ) (174 الأعراف)، (كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ) (من 32 الأعراف).
فإذا كان اللهُ تعالى قد فصَّلَ “آياتِه” التي أيَّدَ بها أنبياءَه المُرسَلين، فبيَّنها وجعلَها تشهدُ بأن ليس بمقدورِ أحدٍ سواه أن يأتيَ بها (فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ الطُّوفَانَ وَالْجَرَادَ وَالْقُمَّلَ وَالضَّفَادِعَ وَالدَّمَ آيَاتٍ مُفَصَّلَاتٍ) (من 133 الأعراف)، فكذلك فعلَ اللهُ تعالى مع آياتِ قرآنِه العظيم إذ فصَّلها فبيَّنَها وبما يجعلُها تشهدُ لكلِّ مَن يتدبَّرُها بأنها لا يمكنُ أن تكونَ من عندِ غيرِ الله.
لقد جعلَ اللهُ تعالى قرآنَه العظيمَ عربيَّ اللسانِ ففصَّلَه وبيَّنَه حتى لا يعترضَ المشركونَ فيقولوا ما بوسعِنا أن نتبيَّنَه بتدبُّرِ الآية الكريمة: (وَلَوْ جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا أَعْجَمِيًّا لَقَالُوا لَوْلَا فُصِّلَتْ آيَاتُهُ أَأَعْجَمِيٌّ وَعَرَبِيٌّ) (من 44 فُصِّلت). فتدبُّرُ هذه الآيةِ الكريمة يبيِّنُ لنا أنَّ تفصيلَ الآياتِ هو تِبيانُها وبما يجعلُها واضحةَ المعنى بيِّنة.
وبذلك فإنَّ معنى “وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ إِلَيْكُمُ الْكِتَابَ مُفَصَّلًا” بالإمكانِ إيجازُه وتلخيصُه بالكلماتِ التالية: ”اللهُ تعالى هو الذي أنزلَ إلى الناسِ قرآنَه، وهو الذي بيَّنَ معنى آياتِه تبياناً لا يحتاجُ الأمرُ غيرَ أن يتدبَّرَها قارئُها ليتبيَّن هذا المعنى”.

اترك تعليقًا

إملأ الحقول أدناه بالمعلومات المناسبة أو إضغط على إحدى الأيقونات لتسجيل الدخول:

شعار ووردبريس.كوم

أنت تعلق بإستخدام حساب WordPress.com. تسجيل خروج   /  تغيير )

Facebook photo

أنت تعلق بإستخدام حساب Facebook. تسجيل خروج   /  تغيير )

Connecting to %s