من تجلياتِ رحمةِ اللهِ التي أُرسِلَ بها سيدُنا محمد للناسِ أجمعين

يتوهَّمُ كثيرٌ من الناسِ أنَّ هنالك برزخاً قائماً بين الدينِ والعلم وبما يجعلُ لكلٍّ منهما نطاقَهُ ومجالَهُ اللذين لا يوجدُ أيُّ تداخُلٍ بينهما، كائناً ما كان، على الإطلاق! وهذا وهمٌ أسَّسَ له ورسَّخَه السوادُ الأعظمُ من رجالِ العِلمِ ورجالِ الدينِ على حَدٍّ سَواء! وبذلك فلقد ضمنَ كِلا الفريقَينِ ألاَّ يكونَ هناكَ أيُّ تفاعلٍ بين العلمِ والدين، وذلك محافظةً على ما يتوهَّمُ كلُّ فريقٍ أنَّها أرضُهُ التي لا ينبغي للفريقِ الآخر أن يطأها! وفي هذا ما فيه من إخفاقِ كلِّ فريقٍ في التمسُّكِ بالمنهجِ الصارمِ الذي يقومُ عليهِ كلٌّ من العلمِ والدين! فإذا كان رجالُ العلمِ قد نصَّبوا أنفسَهم أوصياءَ على كلِّ ما هو ذو صِلةٍ بالعلم، فإنَّ السوادَ الأعظم من رجالِ الدينِ بالمقابل قد قَصَروا فهمَ الدينِ على أنفسِهم فحرَّموا على غيرِهِم تدبُّرَ ما جاء بهِ الدين!
ولو أنَّ السوادَ الأعظمَ من رجالِ الدين تدبَّروا ما جاءهم به الدين، لَما حرَّموا على الناسِ أن يتدبَّروا الدين، ولَما أقرُّوا رجالَ العلمِ فيما ذهبوا إليه من تأسيسٍ وترسيخٍ لهذا الفصلِ بين العلمِ والدين! فاللهُ تعالى أرسلَ رسولَه الكريم صلَّى اللهُ تعالى عليه وسلَّم رحمةً للناسِ أجمعين:
1- (وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ) (107 الأنبياء).
2- (وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيرًا وَنَذِيرًا وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ) (28 سورة سبأ).
وهذه الرحمةُ التي ابتُعِثَ بها رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ تعالى عليه وسلَّم ليس لأحدٍ أن يقصُرَها على مجالٍ بِعَينِه؛ فهي رحمةٌ عامةٌ شاملة تطالُ مناحيَ حياةِ الناسِ بتفاصيلِها كافة. ومن هذه التفاصيلِ ما هو موصولٌ بكلِّ ما يُنتِجُهُ العقلُ ويُبدِعُهُ من علمٍ ومعرفة. فاللهُ تعالى أنزلَ قرآنَه العظيم تبياناً لكلِّ شيءٍ يحتاجُه الإنسانُ حتى يعرفَ العالَمَ كما قُدِّرَ له أن يعرفَه إذا ما هو أعملَ عقلَهُ واستعانَ على ذلك بما جاءَهُ به كتابُ الله: (وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِين) (من 89 النحل).
فالقرآنُ إذاً يُفسِّرُ العلمَ، وذلك لأنَّه تبيانٌ لكلِّ ما يقومُ عليه العلم ولكلِّ ما جاءَ به. فقوانينُ العلمِ لا قدرةَ لعقلِ الإنسانِ على أن يفهمَها الفهمَ الصائبَ الذي لو أنَّه استعانَ بقرآنِ اللهِ العظيم لتجلَّى له بَيِّناً جَلياً. فاللهُ تعالى ما أرسلَ رسولَه الكريم صلَّى اللهُ تعالى عليه وسلَّم بقرآنِهِ العظيم حتى يظهرَ من رجالِ الدينِ مَن يزعمُ بأنَّ هذا القرآنَ ليس بمقدورِهِ أن يُعينَ متدبِّرَه على فَقهِ ظواهرِ العالَمِ وقوانينِ العِلمِ الفقهَ الصائبَ الصحيح، وذلك بحجةٍ مفادُها “أنَّ هذا القرآنَ ليس كتابَ علمٍ وإنما هو كتابُ دين”! وهذا إن دلَّ فإنما يدلُّ على أنَّ هذه الطائفةَ من رجالِ الدين لم تتدبَّر يوماً قولَ اللهِ تعالى في الآياتِ الكريمةِ التالية:
1- (رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيم) (129 البقرة).
2- (كَمَا أَرْسَلْنَا فِيكُمْ رَسُولًا مِنْكُمْ يَتْلُو عَلَيْكُمْ آيَاتِنَا وَيُزَكِّيكُمْ وَيُعَلِّمُكُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُعَلِّمُكُمْ مَا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُون) (151 البقرة).
3- (لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ) (164 آل عمران).
4- (هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ. وَآخَرِينَ مِنْهُمْ لَمَّا يَلْحَقُوا بِهِمْ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيم) (2- 3 الجمعة).
فتدبُّرُ هذه الآياتِ الكريمةِ يُبيِنُ لنا أنَّ العلمَ ليس بمنأى عن أن تطالَه كلماتُ القرآنِ العظيم وبما يكفلُ لمتدبِّرِها أن يفقهَ قوانينَه ويُفسِرَها التفسيرَ الصائبَ الصحيح.

اترك تعليقًا

إملأ الحقول أدناه بالمعلومات المناسبة أو إضغط على إحدى الأيقونات لتسجيل الدخول:

شعار ووردبريس.كوم

أنت تعلق بإستخدام حساب WordPress.com. تسجيل خروج   /  تغيير )

Facebook photo

أنت تعلق بإستخدام حساب Facebook. تسجيل خروج   /  تغيير )

Connecting to %s