
نقرأُ في سورةِ البلد، وفي الآياتِ الكريمة 11- 18 منها، قَولَ اللهِ تعالى: (فَلَا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ. وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْعَقَبَةُ. فَكُّ رَقَبَةٍ. أَوْ إِطْعَامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ. يَتِيمًا ذَا مَقْرَبَةٍ. أَوْ مِسْكِينًا ذَا مَتْرَبَةٍ. ثُمَّ كَانَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ وَتَوَاصَوْا بِالْمَرْحَمَةِ. أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ). فلماذا جعلَ اللهُ تعالى التواصيَ بالصبرِ والمرحمة شرطاً لابد للذين آمنوا من الاتِّصافِ به حتى يكونوا من أصحابِ الميمنة؟
يُعينُ على تبيُّنِ الإجابةِ على هذا السؤال أن نستذكرَ ونتدبَّرَ بعضاً من صفاتِ الإنسانِ كما فصَّلها لنا قرآنُ اللهِ العظيم:
1- (وَكَانَ الْإِنْسَانُ عَجُولًا) (من 11 الإسراء).
2- (وَكَانَ الْإِنْسَانُ كَفُورًا) (من 67 الإسراء).
3- (وَكَانَ الْإِنْسَانُ قَتُورًا) (من 100 الإسراء).
4- (وَكَانَ الْإِنْسَانُ أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلًا) (من 54 الكهف).
5- (وَأُحْضِرَتِ الْأَنْفُسُ الشُّحَّ) (من 128 النساء).
فإذا كانت هذه هي حقيقةُ الإنسانِ، التي يأبى كثيرٌ منا أن يصدِّقها، فإنَّه لمن المنطقي أن يأتيَنا دينُ اللهِ تعالى بكلِّ ما من شأنِهِ، إن نحن اتَّخذناهُ شِرعتَنا ومنهاجَنا في التعامُلِ مع النفسِ وما يأمرُنا بهِ هواها، أن يُعِينَنا على الإفلاتِ من مُحكَمِ قبضةِ هذه النفسِ ومخالبِ هواها. ولذلك يأمرُنا دينُ اللهِ تعالى بالصبرِ والتراحُم.
فالصبرُ سلوكٌ تأباهُ النفسُ وتمجُّهُ وتمقتُه أشدَّ المَقت، وذلك لأنَّه يطالبُها بتحمُّلِ ما لا تُطيقُ والرضا بما لا تهوى. أما التراحمُ، فهو سلوكٌ يضطرُّ النفسَ إلى المخالفةِ عن جِبلتِها وطبيعتِها؛ فالنفسُ بخيلةٌ لا طاقةَ لها، ولا رغبةَ، في البذلِ والعطاء.
يتبيَّنُ لنا، وبتدبُّرِ ما تقدَّم، أنَّ دينَ اللهِ تعالى لا يأمرُنا إلا بما يُمكِّنُنا من ألا نُصغِيَ لما تأمرُنا به النفسُ ويُزيِّنُه لنا الهوى. فإذا كان الإنسانُ قد خُلِقَ هَلوعاً جَزوعاً مَنوعاً، فإنَّ لزومَ “الصبرِ والتراحم” هو الوسيلةُ الوحيدةُ للارتقاءِ بعيداً عن هذا الذي خُلِقنا به وجُبِلنا عليه لنعودَ بعدها إلى ما كنا عليه يومَ خُلِقنا بشراً في أحسنِ تقويم: (إِنَّ الْإِنْسَانَ خُلِقَ هَلُوعًا. إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعًا. وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعًا. إِلَّا الْمُصَلِّينَ. الَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَاتِهِمْ دَائِمُونَ. وَالَّذِينَ فِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُومٌ. لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ. وَالَّذِينَ يُصَدِّقُونَ بِيَوْمِ الدِّينِ. وَالَّذِينَ هُمْ مِنْ عَذَابِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ. إِنَّ عَذَابَ رَبِّهِمْ غَيْرُ مَأْمُونٍ. وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ. إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ. فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ. وَالَّذِينَ هُمْ لِأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ. وَالَّذِينَ هُمْ بِشَهَادَاتِهِمْ قَائِمُونَ. وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ) (19- 34 المعارج).