
نقرأُ في سورةِ مريم، وفي الآياتِ الكريمةِ 16- 21 منها، قَولَ اللهِ تعالى: (وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ مَرْيَمَ إِذِ انْتَبَذَتْ مِنْ أَهْلِهَا مَكَانًا شَرْقِيًّا. فَاتَّخَذَتْ مِنْ دُونِهِمْ حِجَابًا فَأَرْسَلْنَا إِلَيْهَا رُوحَنَا فَتَمَثَّلَ لَهَا بَشَرًا سَوِيًّا. قَالَتْ إِنِّي أَعُوذُ بِالرَّحْمَنِ مِنْكَ إِنْ كُنْتَ تَقِيًّا. قَالَ إِنَّمَا أَنَا رَسُولُ رَبِّكِ لِأَهَبَ لَكِ غُلَامًا زَكِيًّا. قَالَتْ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلَامٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ وَلَمْ أَكُ بَغِيًّا. قَالَ كَذَلِكِ قَالَ رَبُّكِ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ وَلِنَجْعَلَهُ آيَةً لِلنَّاسِ وَرَحْمَةً مِنَّا وَكَانَ أَمْرًا مَقْضِيًّا).
يتبيَّنُ لنا، وبتدبُّرِ الآيةِ الكريمة “قَالَتْ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلَامٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ”، أنَّ السيدةَ مريم لم تكن تعلمُ أنَّ البشرَ ليسوا وحدَهم مَن بمقدورِه أن يطمثوا النساء. فرِجالُ الجنِّ بمقدورِهم فِعلُ ذلك أيضاً، وذلك كما يتبيَّنُ لنا بتدبرِ الآيةِ الكريمة 56 من سورةِ الرحمن: (فِيهِنَّ قَاصِرَاتُ الطَّرْفِ لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنْسٌ قَبْلَهُمْ وَلَا جَانٌّ).
وهذا إن دلَّ فإنَّما يدلُّ على أنَّ القُربى من اللهِ تعالى لا يلزمُ عنها بالضرورة وجوبُ أن يعلمَ العبدُ الذي قرَّبَه اللهُ تعالى إليه حقائقَ الوجودِ كلَّها جميعاً. وبرهانُ ذلك أنَّ سيدَنا موسى لم يكن يعلمُ ما كان يعلمُهُ من اللهِ تعالى العبدُ الصالحُ الذي قامَ بأفعالٍ لم يستسغها عقلُ سيدِنا موسى.