
خلقَ اللهُ تعالى الإنسانَ بِعقلٍ لم يُقدِّر له أن يعرفَ من الدنيا إلا ظاهرَها. فالإنسانُ لم يُخلَق لِيعرفَ ما لم يكن لِيعرفَه لولا أنَّ اللهَ تعالى هو مَن عرَّفه به: (الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ. عَلَّمَ الْإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ) (4- 5 العلق).
ويتصدَّرُ قائمةَ الأمورِ التي لم يُقدَّر للإنسانِ أن يعرفَها وحدَه كلُّ ما هو ذو صلةٍ باللهِ تعالى، وبما غُيِّبَ عن الإنسانِ من أمورِ دُنياه، وبكلِّ ما تشتملُ عليه الآخرةُ من مفرداتٍ غيبية. ولذلك كان حقاً على اللهِ تعالى أن يُعلِّمَ الإنسانَ “ما لم يعلَم”، فأرسلَ المُرسَلين من أنبيائه ليُعلِّموه ما يكفيه حتى يسعدَ في دُنياهُ وأُخراه:
1- (وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اُعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ) (من 36 النحل).
2- (مَا يُقَالُ لَكَ إِلَّا مَا قَدْ قِيلَ لِلرُّسُلِ مِنْ قَبْلِكَ إِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ وَذُو عِقَابٍ أَلِيمٍ) (43 فصلت).
3- (اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لَا رَيْبَ فِيهِ وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ حَدِيثًا) (87 النساء).
غيرَ أنَّ الإنسانَ أبى إلا أن يُسلِمَ قِيادَه لنفسِه، فيُمكِّنَها بذلك من عقلِه، فكان أن شذَّ عن صراطِ اللهِ المستقيم واتَّبعَ هواه فأضلَّهُ اللهُ تعالى على علم. ولقد زجَّ بالإنسانِ في ظُلُماتِ النأي عن اللهِ تعالى تحالفٌ شريرٌ تعاهدَ أصحابُه على ألا يخرجَ الإنسانُ بعدها من هذه الظلماتِ أبداً! ويتكونُ هذا التحالفُ من الشيطانِ وقبيلِه من شياطينِ الجِن وحزبِهِ من شياطينِ الإنس. ولقد نجمَ عن انصياعِ الإنسانِ لِما يأمرُهُ به هذا التحالفُ الشريرُ ما جعلَهُ يُستدرَجُ إلى ضلالاتِ الإشراكِ باللهِ تعالى والعبوديةِ لِغيرِه. فاللهُ تعالى لم يأمر أحداً من المُرسَلين من أنبيائه إلا بأن يدعوَ إلى عبادتِه هو وحدَه لا شريكَ له: (مَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُؤْتِيَهُ اللَّهُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُوا عِبَادًا لِي مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلَكِنْ كُونُوا رَبَّانِيِّينَ بِمَا كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ وَبِمَا كُنْتُمْ تَدْرُسُونَ) (79 آل عمران).
وبوسعِ متدبِّرِ القرآنِ العظيم أن يجدَ أمثلةً على وجوبِ ذلك التوحيدِ الخالصِ، والإخلاصِ المطلق للهِ تعالى، أينما جالَ ببصرِه في صفحاتِه، ومن ذلك ما بوسعِنا أن نتبيَّنُه بتدبُّرِ ما قالَه سيدُنا نوح لِقومه: (إِنَّا أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ أَنْ أَنْذِرْ قَوْمَكَ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ. قَالَ يَا قَوْمِ إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ. أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاتَّقُوهُ وَأَطِيعُونِ) (1- 3 نوح).
وهو عينُ ما بوسعِنا أن نتبيَّنَه فيما قالَه سيدُنا عيسى لِقومِه: (مَا قُلْتُ لَهُمْ إِلَّا مَا أَمَرْتَنِي بِهِ أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ) (من 117 المائدة).
يتبيَّنُ لنا إذاً، وبتدبُّرِ ما تقدَّم، أن فحوى رسالةِ اللهِ تعالى إلى البشر، والتي حملَها إليهم أنبياؤه المُرسَلون، بالإمكانِ إيجازُها وتلخيصُها بما نصَّت عليه الآيةُ الكريمة 32 من سورةِ المؤمنون: (فَأَرْسَلْنَا فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ).