والنفسُ تحكمُ قبلَ العقلِ أحياناً!

خرجَ علينا “العقلُ العِلمي” بنظريةٍ مفادُها أنَّ الحياةَ على هذه الأرضِ ابتدأت بسيطةً وانتهت بكيانٍ فائقِ التعقيد هو “الإنسانُ العاقل”! ولقد أقرَّ البعضُ، ممَّن يُسمُّونَ أنفسَهم “رجالَ الدين”، العلمَ على ما انتهى إليهِ من توصيفٍ للإنسانِ بأنَّه “كائنٌ عاقل”! وهذه واحدةٌ من المراتِ القلائل التي يتَّفق فيها رجالُ العلمِ و”رجالُ الدين” هؤلاء. فالفريقانِ قلَّما يتَّفقانِ على أمرٍ، وذلك طالما كان كلٌّ ينوحُ على ليلاه!
ولكن، ألا يحقُّ لنا أن نُشكِّكَ في مصطلح “الإنسان العاقل”، وكثيرٌ مما بينَ أيدينا وخلفَنا من مفرداتِ التراثِ الإنساني يشهدُ بأنَّ الإنسانَ أبعدُ ما يكونُ عن الاتِّصافِ بالعقلِ سِمةً منفردةً يُعرَّفُ بها! فلو كان الإنسانُ “عاقلاً” حقاً، فهل كانت صحائفُ التاريخِ وشواهدُ الواقعِ لتقولَ خلافَ ذلك؟! فكلُّ مَن يقرأُ صحائفَ التاريخ قراءةً موضوعيةً متجردةً عن التحيُّزِ والهوى، لا يملكُ غيرَ أن يعجبَ للذين يُصِّرونَ على النظرِ إلى الإنسانِ على أنَّه “كائنٌ عاقل”! ويؤيد هذه القراءةَ ما بوسعِ كلِّ متدبِّرٍ في أحوالِ معاصريه من البشر أن يتبيَّنَه فيما أظهرَه كثيرٌ منهم في الأرضِ من الفساد! فهل ما يشهدُهُ العالمُ اليومَ من ظلمٍ وجَورٍ يؤيدُ ما ذهبَ إليه رجالُ العلم، وأيَّدَهم في ذلك كثيرٌ من “رجالِ الدين”، من أنَّ الإنسانَ “كائنٌ عاقل”؟!
إنَّ “العقلَ العلمي”، وبسببٍ من عجزِه عن أن يتعاملَ مع الإنسان التعاملَ المعرفي الصائب، لن يكونَ بمقدورِه أبداً أن يُدرِكَ أنَّ العقلَ ليس هو الصفةَ الوحيدةَ التي ينبغي أن يُعرَّفَ بها الإنسان. ولقد كان بمقدورِ كثيرٍ من رجالِ الدين، مِمَّن وافقَوا العقلَ العِلمي فيما ذهبَ إليه من توصيفٍ للإنسانِ بأنَّه “كائنٌ عاقل”، أن يُعينوا رجالَ العِلم فيُبيِّنوا لهم ما هم عاجزون عن أن يتبيَّنوه في الإنسانِ، لو أنَّ رجالَ الدينِ هؤلاء قدَروا القرآنَ العظيمَ حقَّ قدره فتدبَّروا ما جاءتهم به آياتُه الكريمة من تبيانٍ لحقيقةِ الإنسانِ التي لا يكفي للإحاطةِ بها أن نقولَ عنه إنَّه “كائنٌ عاقل” وننسى أنَّ للإنسانِ “كينونةً أخرى”، غيرَ عقلِهِ هذا، لها في كثيرٍ من الأحايين اليدُ الطولى في حُكمِه على الأشياء. وهذه الكينونةُ هي “النفسُ” بمعناها الديني وليس العِلمي؛ هذا المعنى الذي بوسعنا أن نتبيَّنَ “شيئاً ما” بشأنِه إن نحنُ استذكرنا وتدبَّرنا الآياتِ الكريمةَ التالية:
1- (فَطَوَّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ قَتْلَ أَخِيهِ فَقَتَلَهُ فَأَصْبَحَ مِنَ الْخَاسِرِينَ) (30 المائدة).
2- (وَمَا أُبَرِّئُ نَفْسِي إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلَّا مَا رَحِمَ رَبِّي) (من 53 يوسف).
3- (قَالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْرًا) (من 83 يوسف).
4- (وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى. فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى) (40- 41 النجم).
5- (وَأُحْضِرَتِ الْأَنْفُسُ الشُّحَّ) (من 128 النساء).

اترك تعليقًا

إملأ الحقول أدناه بالمعلومات المناسبة أو إضغط على إحدى الأيقونات لتسجيل الدخول:

شعار ووردبريس.كوم

أنت تعلق بإستخدام حساب WordPress.com. تسجيل خروج   /  تغيير )

Facebook photo

أنت تعلق بإستخدام حساب Facebook. تسجيل خروج   /  تغيير )

Connecting to %s