
خلقَ اللهُ تعالى بَني آدمَ شعوباً وقبائلَ: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ) (من 13 الحُجُرات). فالناسُ كما يُعلِّمُنا القرآنُ العظيم، وإن كانوا قد تناشَزوا شعوباً وقبائلَ وتمايَزوا فيما بينهم ألواناً وألسِنة، فإن أصلَهم، الذي هو منبَتُهم، واحدٌ: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً) (من 1 النساء).
فاختلافُ الناسِ فيما بينَهم ألواناً وألسنةً لا ينبغي أن يُجَوِّزَ لكائنٍ مَن كان أن يجعلَ لهذا العِرقِ أو ذاك أفضليةً على غيرِهِ من الأعراق، وذلك مادام الأصلُ واحداً والمنبَتُ هو ذاتُ المنبَت؛ فكلُّنا، وكما يقولُ رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ تعالى عليه وسلَّم، لآدمَ وآدمُ من تراب. وهذا الأصلُ الآدَمي المشترَك، الذي هو أصلُ شعوبِ الأرضِ كلِّها جميعاً، حقيقةٌ يتوجَّبُ على الناسِ في كلِّ زمانٍ ومكان أن يقدِروها حقَّ قدرِها. فمادامَ أصلُنا واحداً، فمشاكلُنا هي بالضرورةِ واحدة، وحلُّها لابد وأن يكونَ بالتالي واحداً.
ولذلك بيَّنَ لنا اللهُ تعالى في قرآنِه العظيم الحقيقةَ التي لا ينبغي أن تغيبَ عن بالِنا ما استطعنا: (إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ) (من 13 الحُجُرات). فتقوى اللهِ تعالى هي مِعيارُ التفاضُلِ الوحيد الذي يتمايزُ بموجبِهِ بَنو آدمَ كلُّهم جميعاً “عند اللهِ تعالى” وليس فيما بينهم! فإذا كانَ أكرمُ الناسِ عند اللهِ تعالى هو أتقاهم له، فإنَّ هذا لا يُعطي له الحقَّ، ولا لأيٍّ كان، بالقولِ بأنَّهُ، وبسببٍ من هذه “الأكرمية”، أفضلُ من غيرِهِ من بَني آدم! فالتفاضلُ بين بَني آدمَ عند اللهِ تعالى لا يلزمُ عنه تفاضُلٌ بين بَني آدم يُصبِحُ الفاضلُ بمقتضاهُ يفضُلُ المفضولَ!
فأكرمُ الناسِ عند اللهِ تعالى أتقاهم له، وذلك لأنَّه أكثرُهم إدراكاً لهذه النفسِ التي ابتُلِيَ بها هو كما ابتُلِيَ بها غيرُه، وهو أكثرُهم تعبُّداً للهِ أما وقد أيقنَ ألا سبيلَ للانعتاقِ من القبضةِ المُحكَمةِ لهذه النفس إلا بأن يعبدَ اللهَ العبادةَ التي أمرَ اللهُ بها بَني آدمَ، وأوجبَها عليهم هُداهُ الذي أرسلَ به أنبياءَه المُرسَلين. فإذا كان بَنو آدم قد تعدَّدت أنفسُهُم بتَعدُّدِ أنفاسهم، فإنَّهم وإن اختلفت سِحَنُهم وألوانُهم وألسنتُهم، يبقى لِسانُ النفسِ منهم واحداً ومفرداتُهُ اللغويةُ واحدة. فحديثُ نفسِ الإنسانِ لا يُتقِنُ لسانُه غيرَ هذه اللغةِ الواحدةِ التي لا قدرةَ لعقلِهِ على أن يُخاطِبَها به إلا من بعدِ إتقانِهِ لسانَ التعبُّدِ لله الذي وحدَه بمقدورِهِ أن يضطرَّها إلى الإنصاتِ إليه والإذعانِ لِما يأمرُها بإذنِ اللهِ به. عندها، وعندها فقط، ينعتِقُ الإنسانُ من رِبقةِ أسرِ نفسِه فيُصبِحُ إنساناً كاملاً في أحسنِ تقويم، وذلك كما خُلِقَ ليكونه.