
تدخَّلَ اللهُ تعالى في حياةِ سيدِنا موسى تدخُّلاً مباشراً تعيَّنَ على “وقائعِ وأحداثِ زمانِه ومكانِه”، وبمقتضى هذا التدخُّلِ الإلهي المباشر، أن تحدثَ وبالكيفية التي تكفَّلت بجعلِهِ عليه السلام “يجيءُ إلى اللهِ على قَدَرٍ” ما كان لِيتحقَّقَ لو أنَّ قوانينَ الوجودِ كلَّها جميعاً تظاهرت وتظافرت جهودُها على صياغتِه. فاللهُ تعالى اصطنعَ سيدَنا موسى لنفسِه فصنعَه على عينِه: (وَاصْطَنَعْتُكَ لِنَفْسِي) (41 طه)، (وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي) (من 39 طه)، (ثُمَّ جِئْتَ عَلَى قَدَرٍ يَا مُوسَى) (من 40 طه).
وتدخُّلُ اللهِ تعالى المباشر في حياةِ سيدِنا موسى ابتدأَ منذ أن أبصرت عيناهُ النور، وذلك بما ألقى عليهِ من محبةٍ منه (وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِنِّي) (من 39 طه)، وبما أوحى به إلى أمِّهِ: (وَأَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّ مُوسَى أَنْ أَرْضِعِيهِ فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ وَلَا تَخَافِي وَلَا تَحْزَنِي إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجَاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ) (7 القَصَص).
وهكذا توالت الأيامُ وانقضت الأعوام حتى بلغَ سيدُنا موسى أشُدَّه فآتاهُ اللهُ تعالى حُكماً وعِلماً: (وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَاسْتَوَى آتَيْنَاهُ حُكْمًا وَعِلْمًا وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ) (14 القصَص). فلماذا ألقى اللهُ تعالى على سيدنا موسى محبةً منه؟ ولماذا اصطنعه لنفسه فصنعه على عينه؟
يُعينُ على تبيُّنِ الإجابةِ على هذين السؤالين أن نستذكرَ الحقيقةَ القرآنيةَ التي مفادُها أنَّ اللهَ تعالى، ومن بعدِ أن اجتذبَ سيدَنا موسى “للقائِه”، ومن بعدِ أن أراهُ من آياتِه الكبرى ما أراه، من تحوُّلِ عصاهُ ثعباناً وعودةِ العصا بعد ذلك سيرتَها الأولى، ومن شفاءِ يدِهِ شفاءً لَحَظياً آنياً ، كلَّف سيدَنا موسى بأن يذهبَ إلى فرعونَ الطاغية فيطلبَ منه أن يُرسِلَ معه بَني إسرائيل الذين كان يسومُهم سوءَ العذاب:
1- (قَالَ خُذْهَا وَلَا تَخَفْ سَنُعِيدُهَا سِيرَتَهَا الْأُولَى. وَاضْمُمْ يَدَكَ إِلَى جَنَاحِكَ تَخْرُجْ بَيْضَاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ آيَةً أُخْرَى. لِنُرِيَكَ مِنْ آيَاتِنَا الْكُبْرَى. اذْهَبْ إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى) (21- 24 طه).
2- (فَأْتِيَاهُ فَقُولَا إِنَّا رَسُولَا رَبِّكَ فَأَرْسِلْ مَعَنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ وَلَا تُعَذِّبْهُمْ قَدْ جِئْنَاكَ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكَ وَالسَّلَامُ عَلَى مَنِ اتَّبَعَ الْهُدَى) (47 طه).
3- (وَلَقَدْ فَتَنَّا قَبْلَهُمْ قَوْمَ فِرْعَوْنَ وَجَاءَهُمْ رَسُولٌ كَرِيمٌ. أَنْ أَدُّوا إِلَيَّ عِبَادَ اللَّهِ إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ) (17- 18 الدخان).
فاللهُ تعالى، إذ “اصطنعَ سيدَنا موسى لنفسِه فصنعَه على عينِه”، فإنَّه إنما كان بذلك يُعِدُّه ويؤهِّلُه لهذه المهمةِ الشاقةِ العسيرة. ففرعونُ، الذي كان يتربَّعُ على عرشِ أقوى امبراطوريةٍ في العالَمِ القديم، كان طاغيةً جباراً في الأرضِ فرَّقَ أهلَها شِيَعاً “يَسْتَضْعِفُ طَائِفَةً مِنْهُمْ يُذَبِّحُ أَبْنَاءَهُمْ وَيَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ”. وطاغيةٌ كفرعونَ لم يكن ليصمدَ في وجهِ طغيانِهِ وجبروتِهِ بشَرٌ عادي كسائرِ البشر. ولذلك اقتضى الأمرُ أن يُصارَ إلى إعدادِ رجلٍ كسيِّدِنا موسى تعهَّدَه اللهُ تعالى بالرعايةِ والعنايةِ منذ نعومةِ أظفارِه فصنَعَه على عَينِه.
ويكفينا دليلاً وبرهاناً على أنَّ الأمرَ هو كما تُبيِّنُه هذه الكلمات، أن نستذكرَ ونتدبَّرَ قَولَ اللهِ تعالى: (وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِنِّي) (من 39 طه). ففرعونُ، الذي كان قد أصدرَ أمراً يُقتَلُ بموجبِهِ كلُّ مولودٍ ذكَرٍ من بَني إسرائيل، قد أبقى على سيدِنا موسى، من بعدِ أن أرته إياهُ إمرأتُه، وذلك انبهاراً بما كان اللهُ تعالى قد ألقاهُ على سيدِنا موسى من محبَّتِه.