نقرأُ في سورةِ الإنسان، وفي الآيةِ الكريمة 8 منها، قَولَ اللهِ تعالى: (وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا).
يُذكِّرُ قولُ اللهِ تعالى هذا بما وردَ في الآية الكريمة 177 من سورةِ البقرة: (وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ). فما هو معنى “عَلَى حُبِّهِ” في هاتَين الآيتَين الكريمتَين؟
يُعينُ على تبيُّنِ هذا المعنى أن نستذكرَ قَولَ اللهِ تعالى في الآية الكريمة 92 من سورةِ آل عمران: (لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ). فالإنسانُ خُلِقَ مُحباً للمال: (وَتُحِبُّونَ الْمَالَ حُبًّا جَمًّا) (20 الفجر). ونفسُ الإنسانِ أُحضِرَت الشُّحَّ والتقتير: (وَأُحْضِرَتِ الْأَنْفُسُ الشُّحَّ) (من 128 النساء)، (وَكَانَ الْإِنْسَانُ قَتُورًا) (من 100 الإسراء).
كما أنَّ الإنسانَ لا يملكُ أن يُخالِفَ عما تأمرُهُ به نفسُه من بُخلٍ وشُحٍّ وتقتيرٍ وإمساكِ يدٍ إلا بأن يضطرَّها إلى خلافِ ذلك اضطراراً، وذلك أمرٌ لن تُمَكَّنَ منه إلا قلةٌ من بَني آدمَ وبشِقِّ الأنفُس: (قُلْ لَوْ أَنْتُمْ تَمْلِكُونَ خَزَائِنَ رَحْمَةِ رَبِّي إِذًا لَأَمْسَكْتُمْ خَشْيَةَ الْإِنْفَاقِ) (من 100 الإسراء).
وفوقَ ذلك كلِّه يُضطَرُّ الإنسانُ إلى أن يواجِهَ “صوتاً آخرَ”، غيرَ نفسِه، يأمرُهُ بـ “ألا يُنفقَ مما يُحِب”: (الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ) (من 268 البقرة). فالشيطانُ يُزيِّنُ للإنسانِ أن يُمسِكَ يدَه فلا يُنفِقَ على مَن يأمرُهُ دينُ اللهِ تعالى بأن يُنفِقَ عليه، وذلك “خشيةَ أن ينتهيَ به الأمرُ بعدها إلى أن يُصبِحَ فقيراً هو الآخر”! ولذلك شدَّدَ اللهُ تعالى في قرآنِه العظيم على وجوبِ أن يحرصَ المرءُ على أن يُنفِقَ من مالِهِ، الذي يُحبُّه حباً جَماً، على الفقراءِ والمساكين وعلى غيرِهم ممَّن أوجبَ اللهُ تعالى الإنفاقَ عليهم. ولذلك أيضاً كان “الإنفاقُ مما نُحِب” هو سبيلُنا إلى نَيلِ البِرِّ الذي لن ننالَه حتى ننُفِقَ مما نُحب: (لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ).
ويؤكِّدُ ذلك تعريفُ القرآنِ العظيم للبِر كما فصَّلته لنا الآية الكريمة 177 البقرة: (لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ وَأَقَامَ الصَّلَاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُون).