لَدُنُ اللهِ و”كُن فيكون” (٣)

انتهيتُ في القسمَين الأول والثاني من هذه المقالة إلى أنَّ مِن وقائعِ الوجودِ وأحداثِه ما لا قدرةَ للقوانينِ والأسباب التي سبقَ وأن بثَّها اللهُ تعالى فيه على أن تتسبَّبَ في حدوثِه. فالقوانينُ والأسبابُ، التي سبقَ وأن بثَّها اللهُ في أصقاعِ الوجودِ وربوعِه، قد قدَّرَ اللهُ لها “حدوداً” جعلتها محدودةَ التأثيرِ فلا قدرةَ لها بالتالي على أن تتسبَّبَ في حدوثِ ما لا قدرةَ لمخلوقٍ على التسبُّبِ في حدوثِهِ طالما كان اللهُ تعالى قد اختصَّ بها نفسَهُ فاستعصت بذلك على كلِّ أحدٍ غيرِه كائناً مَن كان مِن خلقِه. ومعجزاتُ أنبياءِ الله، وكراماتُ أوليائِه، هي من هذه الوقائعِ والأحداثِ التي لا تحدثُ إلا بتدخُّلٍ مباشرٍ من لدنِ اللهِ تعالى، وذلك وفقاً للقانونِ الإلهي الذي بمقتضاهُ يقولُ اللهُ تعالى للشيءِ إذا أرادَه “كُن فيكون”.
وإذا كان السوادُ الأعظمُ من وقائعِ وأحداثِ هذا العالم لا يحتاجُ حدوثُه إلى غيرِ ما سبقَ وأن بثَّهُ اللهُ تعالى في الوجودِ من قوانينَ وأسباب، فإنَّ “عالَمَ الآخرة” لا قيامَ له إلا بقانونِ “كُن فيكون”. وهذا ما بوسعِنا أن نتبيَّنَه بتدبُّرِ ما جاءتنا به الآيةُ الكريمة 73 من سورةِ الأنعام: (وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ وَيَوْمَ يَقُولُ كُنْ فَيَكُونُ قَوْلُهُ الْحَقُّ وَلَهُ الْمُلْكُ يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ). فالساعةُ لا تجيءُ خاتمةَ سلسلةٍ متصلةِ الحلقاتِ من الوقائعِ والأحداث، وذلك كما يظنُّ ويتوهَّمُ كثيرٌ منا. وهذا ما بوسعنا أن نتبيَّنَه بتدبُّرِ الآياتِ الكريمةِ التالية:
1- (قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِلِقَاءِ اللَّهِ حَتَّى إِذَا جَاءَتْهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً قَالُوا يَا حَسْرَتَنَا عَلَى مَا فَرَّطْنَا فِيهَا وَهُمْ يَحْمِلُونَ أَوْزَارَهُمْ عَلَى ظُهُورِهِمْ أَلَا سَاءَ مَا يَزِرُونَ) (31 الأنعام).
2- (يَسْأَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْسَاهَا قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي لَا يُجَلِّيهَا لِوَقْتِهَا إِلَّا هُوَ ثَقُلَتْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَا تَأْتِيكُمْ إِلَّا بَغْتَةً يَسْأَلُونَكَ كَأَنَّكَ حَفِيٌّ عَنْهَا قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ اللَّهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ) (187 الأعراف).
3- (أَفَأَمِنُوا أَنْ تَأْتِيَهُمْ غَاشِيَةٌ مِنْ عَذَابِ اللَّهِ أَوْ تَأْتِيَهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ) (107 يوسف).
4- (لَوْ يَعْلَمُ الَّذِينَ كَفَرُوا حِينَ لَا يَكُفُّونَ عَنْ وُجُوهِهِمُ النَّارَ وَلَا عَنْ ظُهُورِهِمْ وَلَا هُمْ يُنْصَرُونَ(39)بَلْ تَأْتِيهِمْ بَغْتَةً فَتَبْهَتُهُمْ فَلَا يَسْتَطِيعُونَ رَدَّهَا وَلَا هُمْ يُنْظَرُونَ) (39- 40 الأنبياء).
5- (وَلَا يَزَالُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي مِرْيَةٍ مِنْهُ حَتَّى تَأْتِيَهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً أَوْ يَأْتِيَهُمْ عَذَابُ يَوْمٍ عَقِيمٍ) (55 الحج).
6- (هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا السَّاعَةَ أَنْ تَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لَا يَشْعُرُون) (66 الزخرف).
7- (فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا السَّاعَةَ أَنْ تَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً فَقَدْ جَاءَ أَشْرَاطُهَا فَأَنَّى لَهُمْ إِذَا جَاءَتْهُمْ ذِكْرَاهُمْ) (18 محمد).
فالساعةُ لا تجيءُ إذاً إلا بغتةً ومن دونِ أن يسبقَ مجيئها أحداثٌ تُمهِّدُ وتُقدِّمُ لها. وما ذلك إلا لأنَّ الساعةَ هي من تجلياتِ قانونِ “كن فيكون”؛ هذا القانونُ الإلهي الذي يخلقُ اللهُ تعالى بمقتضاهُ ما يريد بلمحِ البصرِ أو أقرب: (وَلِلَّهِ غَيْبُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا أَمْرُ السَّاعَةِ إِلَّا كَلَمْحِ الْبَصَرِ أَوْ هُوَ أَقْرَبُ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِير) (77 النحل). فأمرُ اللهِ، كما أنبأنا الله، هو بين الكافِ والنونِ: (وَمَا أَمْرُنَا إِلَّا وَاحِدَةٌ كَلَمْحٍ بِالْبَصَرِ) (50 القمر).
وعالَمُ الله (عالَمُ الآخرة) هو “عالَمٌ لَدُني” إذ لا قدرةَ لمخلوقٍ على أن يتسبَّبَ في حدوثِ أيٍّ من وقائعِه وأحداثِه، وأنَّى له ذلك وهو عالَمُ “كُن فيكون” الذي لا تحدثُ الوقائعُ والأحداثُ فيه وفقاً لما درجنا على الأخذِ به مما يقتضيه الأمرُ من تلازُمٍ بين الحدَثِ وزمانِ حدوثِه! فعالَمُ القيامة هو “عالَمٌ لَحَظي” لا يحتاجُ الأمرُ فيه حتى تتجلَّى وقائعُهُ وأحداثُه غيرَ ما يقضي به القانونُ الإلهي القاضي بأنَّ اللهَ تعالى إذا ما أرادَ شيئاً فإنما يقولُ له “كُن فيكون”.

اترك تعليقًا

إملأ الحقول أدناه بالمعلومات المناسبة أو إضغط على إحدى الأيقونات لتسجيل الدخول:

شعار ووردبريس.كوم

أنت تعلق بإستخدام حساب WordPress.com. تسجيل خروج   /  تغيير )

Facebook photo

أنت تعلق بإستخدام حساب Facebook. تسجيل خروج   /  تغيير )

Connecting to %s