
نقرأُ في سورةِ مريم: (قَالَ أَرَاغِبٌ أَنْتَ عَنْ آلِهَتِي يَا إِبْرَاهِيمُ لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ لَأَرْجُمَنَّكَ وَاهْجُرْنِي مَلِيًّا. قَالَ سَلَامٌ عَلَيْكَ سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي إِنَّهُ كَانَ بِي حَفِيًّا. وَأَعْتَزِلُكُمْ وَمَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَأَدْعُو رَبِّي عَسَى أَلَّا أَكُونَ بِدُعَاءِ رَبِّي شَقِيًّا. فَلَمَّا اعْتَزَلَهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَكُلًّا جَعَلْنَا نَبِيًّا) (46- 49 مريم). فما الذي قصدَ إليهِ سيدُنا إبراهيم بقولِهِ إنَّه سيعتزلُ قومَه وما يدعون من دونِ الله: (وَأَعْتَزِلُكُمْ وَمَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ)؟
يُعينُ على الإجابةِ على هذا السؤال أن نستذكرَ ونتدبَّرَ الآيتَين الكريمتَين التاليتين:
1- (وَقَالَ إِنِّي مُهَاجِرٌ إِلَى رَبِّي إِنَّهُ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) (من 26 العنكبوت).
2- (وَقَالَ إِنِّي ذَاهِبٌ إِلَى رَبِّي سَيَهْدِين) (99 الصافات).
فسيدُنا إبراهيم، ومن بعدِ أن نجَّاهُ اللهُ تعالى من كَيدِ قَومِه إذ جعلَهم الأخسرين، توجَّهَ تِلقاءَ أرضٍ فَلاةٍ لا يقطنُها أحدٌ ولا يمرُّ بها إلا نفرٌ مِن عابِري السبيل بين الحينِ والآخر. وبذلك فلقد هجَرَ سيدُنا إبراهيمَ قَومَه مهاجراً إلى اللهِ ومعتزِلاً ما كانوا عليه من خَوضٍ في ضلالاتِ الشِّركِ بالله. والهجرةُ إلى اللهِ، إذ هي اعتزالٌ لكلِّ مَن اتَّبَعَ هَواه وأشركَ بالله، نجمَ عنها ما تجلَّى على سيِّدِنا إبراهيمَ من عظيمِ فضلِ اللهِ ما أغناهُ وكفاه فلم يعُد بحاجةٍ بعدها إلى غيرِ الله: (قَالَ أَفَرَأَيْتُمْ مَا كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ. أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمُ الْأَقْدَمُونَ. فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِي إِلَّا رَبَّ الْعَالَمِينَ. الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ. وَالَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ. وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ. وَالَّذِي يُمِيتُنِي ثُمَّ يُحْيِينِ. وَالَّذِي أَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدِّينِ. رَبِّ هَبْ لِي حُكْمًا وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ. وَاجْعَلْ لِي لِسَانَ صِدْقٍ فِي الْآخِرِينَ. وَاجْعَلْنِي مِنْ وَرَثَةِ جَنَّةِ النَّعِيمِ. وَاغْفِرْ لِأَبِي إِنَّهُ كَانَ مِنَ الضَّالِّينَ. وَلَا تُخْزِنِي يَوْمَ يُبْعَثُونَ. يَوْمَ لَا يَنْفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ. إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ) (75- 89 الشعراء).
فسيدُنا إبراهيم، إذ اعتزلَ قومَهُ وهجَرَهم وهاجرَ بذلك إلى الله، فإنَّه لم يعُد بحاجةٍ بعدها إلى مَن يُزوِّدُهُ بالطعامِ والشراب. وسيدُنا إبراهيم، إذ هاجرَ إلى اللهِ فنأى بنفسِهِ عن قَومِهِ المشركين بالله، فإنَّه لم يكن بحاجةٍ إلى مَن يُطبِّبُه ويُداويه إذا ما اعتلَّ منهُ البدَن؛ فاللهُ تعالى كان هو المُطعِمُ والساقي والطبيبُ المداوي. ولنا فيما كان يجدُهُ سيدُنا زكريا كلَّما دخلَ على السيدةِ مريم المحرابَ ما يُعينُ على تبيُّنِ ما كان عليه سيدُنا إبراهيم من عجيبِ حالٍ مع اللهِ تعالى الذي تكفَّلَ بطعامِهِ وشرابِهِ ودوائه: (كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا الْمِحْرَابَ وَجَدَ عِنْدَهَا رِزْقًا قَالَ يَا مَرْيَمُ أَنَّى لَكِ هَذَا قَالَتْ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ) (من 37 آل عمران).