
يَبني الإنسانُ كثيراً من أحكامِه القَطعية على أساسٍ واهٍ لا يستندُ إلى أيِّ أدلةٍ قاطعة وبراهينَ حاسمة! فالإنسانُ، وبحُكمِ ما جُبِلَ عليهِ من عقلٍ مُسارعٍ إلى إطلاقِ الأحكامِ جِزافاً ودونما ترَوٍّ، واتِّخاذِ المواقف بِفوريةٍ وعلى عُجالة، لا يجدُ أيَّ غضاضةٍ في أن تجيءَ أحكامُه وقراراتُه ومواقفُه أقربَ إلى “المشاعرِ والأحاسيس” منها إلى رجاحةِ التفكير وحصافةِ التعبير! ولذلك نرى الإنسانَ يعجَلُ في حُكمِهِ على الأشياءِ وبما يجعلُهُ عاجزاً بالضرورةِ عن أن يجدَ ما يُعينُه على إلزامِ الخصمِ الحجةَ بأنَّ حكمَهُ هذا مُلزِمٌ لكلِّ ذي عقلٍ وحِجى!
فالإنسانُ شيَّدَ تصوُّرَهُ عن نفسِهِ من دونِ أن يستعينَ بما هو كافٍ من “الوقائعِ والحقائقِ” ليؤيِّدَ تصوُّرَه هذا. ولذلك شابَ صورةَ الإنسانِ عن نفسِهِ كثيرٌ من التضخيمِ والمبالغة، وذلك على قدرِ تعلُّقِ الأمرِ بقُدُراتِه البدَنية والذِّهنية! ولو أنَّ الإنسانَ استعانَ بـ “الوقائعِ والحقائق” لتبيَّنَ له أنَّ تصوُّرَه الواهمَ هذا عن نفسِه، إذ لا يؤيِّدُه شيءٌ من هذه الوقائعِ والحقائق، فإنَّه لابد وأن يجيءَ بالتالي منافياً لكلِّ ما هو واقعيٌّ وحقيقي في هذا الوجودِ الذي لو أنَّ الإنسانَ قاربَهُ بعقلٍ سليمٍ من آفاتِ الكِبرِ والغرور لتبيَّنَت له من وقائعِ هذا الوجودِ وحقائقِه ما كان ليُعينَه على أن يصيغَ تصوراً عن نفسِهِ لا تُمازجُهُ الظنونُ والأوهام!
فهل الإنسانُ “قويٌّ” حقاً كما يظنُّ ويتوهَّم؟ وهل كانت مقارنتُنا، لهذا الذي هو عليه الإنسانُ من “ضعفٍ” بما للحيوانِ من “قوةٍ”، لتنتهِيَ بنا إلى غيرِ الإقرارِ بما جاءنا به القرآنُ العظيم من تِبيانٍ لحقيقةِ الإنسانِ كما ينبغي أن يُقِرَّ بها كلُّ “مَن كان لهُ قلبٌ أو ألقى السمعَ وهو شهيد” من أنَّ الإنسانَ قد خلقَهُ اللهُ تعالى ضعيفاً وبما يُوجِبُ عليه أن يكونَ أبدَ دهرِه فقيراً إلى اللهِ تعالى الفقرَ الذي قدَّرَهُ اللهُ له حتى يُلزِمَهُ بأن يَفِرَّ إليه عِوضَ كلِّ هذا الفرارِ منه والنأي عنه؟ (وَخُلِقَ الْإِنْسَانُ ضَعِيفًا) (من 28 النساء).