
عرَّفَ اللهُ تعالى في قرآنِه العظيم “التديُّنَ الحق بِدينِه الحق” تعريفاً جامِعاً مانِعاً فجعلَ قَوامَه وجوهرَهُ لا يستقيمانِ إلا على أساسٍ من الدعوةِ إلى سبيلِه. فالإسلامُ هو “الدعوةُ إلى الإسلام”. وكلُّ تعريفٍ آخرَ للإسلام، يَقصُرُهُ على هذه أو تلك من العبادات، إنما هو جَورٌ على الإسلامِ لا ينبغي لمَن كانَ يرجو اللهَ واليومَ الآخِر. فمادامَ الإسلامُ هو الدعوةُ إلى الإسلام، فإنَّ إسلامَ المرءِ لا يصحُّ إذا ما هو قصَّرَ في الدعوةِ إلى سبيلِ اللهِ تعالى متذرِّعاً بهذه الحجةِ أو تلك! فالإسلامُ دينٌ وتديُّنٌ بهذا الدين. ومادامَ الأمرُ كذلك، فإنَّ الإجابةَ على السؤال “هل الدعوةُ إلى سبيلِ الله مشمولةٌ بسنِّ التقاعد؟” ستكونُ بالنفيِّ القاطِعِ حتماً.
وهذا هو عينُ ما بوسعِنا أن نتبيَّنَه بتدبُّرِ ما أنبأنا اللهُ تعالى به في قرآنِهِ العظيم من قصَصِ أنبيائِه المُرسَلين. فاللهُ تعالى أرسلَ سيدَنا نوحاً إلى قومِهِ منذِراً ونذيراً: (إِنَّا أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ أَنْ أَنْذِرْ قَوْمَكَ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ. قَالَ يَا قَوْمِ إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ. أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاتَّقُوهُ وَأَطِيعُونِ) (1- 3 نوح). ولقد لبِثَ سيدُنا نوح في قومِهِ يدعوهم إلى اللهِ تعالى مئاتِ السنين: (وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ فَلَبِثَ فِيهِمْ أَلْفَ سَنَةٍ إِلَّا خَمْسِينَ عَامًا) (من 14 العنكبوت).
كما أنَّ سيدَنا يعقوب لم يتخلَّ عن الدعوةِ إلى سبيلِ اللهِ حتى وهو يُحتضَر: (أَمْ كُنْتُمْ شُهَدَاءَ إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ إِذْ قَالَ لِبَنِيهِ مَا تَعْبُدُونَ مِنْ بَعْدِي قَالُوا نَعْبُدُ إِلَهَكَ وَإِلَهَ آبَائِكَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ إِلَهًا وَاحِدًا وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ) (133 البقرة).
وهذا هو عينُ ما كانَ عليهِ حالُ سيدِنا زكريا، الذي وإن كان قد بلغَ من الكِبَرِ عِتياً، فإنَّه لم يتِّخِذ ما آلَ إليهِ أمرُه، إذ وهنَ العظمُ منه واشتعلَ رأسُه شَيباً، ذريعةً ليكُفَّ عن تذكيرِ قومِه بأن يُسبِّحوا بُكرةً وعشياً: (فَخَرَجَ عَلَى قَوْمِهِ مِنَ الْمِحْرَابِ فَأَوْحَى إِلَيْهِمْ أَنْ سَبِّحُوا بُكْرَةً وَعَشِيًّا) (11 مريم).
فكيف بعد ذلك يُريدُنا البعضُ أن نكُفَّ عن الدعوةِ إلى سبيلِ الله بحجةٍ مفادُها أنَّ للعُمُرِ علينا حقاً؟! وهل هناكَ دَورٌ لنا في الحياةِ نؤدِّيهِ هو أفضلُ من ذلكَ الذي أدَّاهُ، وعلى الوجهِ الأكملِ، أنبياءُ اللهِ المُرسَلون، ومَن آمنَ معهم، دعوةً إلى سبيلِ اللهِ ما تخلَّوا عنها أبداً حتى توفَّاهم اللهُ مسلمينَ؟ (قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِين) (108 يوسف). فاللهُ تعالى أمرَنا بأن نتَّقِيَهُ حقَّ تُقاتِه وبألا نموتَ إلا ونحن مسلمون: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُون) (102 آل عمران). ولا سبيلَ آخرَ هناك غيرَ الدعوةِ إلى سبيلِ الله حتى نحيا مسلمين ونموتَ مسلمين: (وَادْعُ إِلَى رَبِّكَ وَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ) (من 87 القَصَص).