
تتعدَّدُ معاني الكلمةِ القرآنيةِ الكريمة “إمام” بتعدُّدِ السياقاتِ القرآنيةِ التي ترِدُ خلالَها. فكلمة “إمام” في القرآنِ العظيم تجيءُ بمعنى “مَن اصطفاهُ اللهُ واجتباهُ وقرَّبَهُ إليهِ وهَداهُ وأجازَهُ بأن يكونَ مَحجةً، يختلفُ إليهِا الناسُ ليحكُمَ بينهم فيما هم فيهِ يختلفون، وحُجةً لهُ عليهم”. وهذا أمرٌ قد وضعَ اللهُ تعالى له ضوابطَ ومُحدِّداتٍ بوسعِنا أن نتبيَّنَها بتدبُّرِ قَولِ اللهِ تعالى: (وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا قَالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي قَالَ لَا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِين) (124 البقرة). فسيدُنا إبراهيمُ لم يُنصِّب نفسَه للناسِ إماماً ولكنَّ اللهَ تعالى هو مَن جعلَه للناسِ إماماً. كما أنَّ الظالمينَ من ذريةِ سيدِنا إبراهيم لن ينالَهم عهدُ اللهِ تعالى ولن يكونَ أحدُهم بالتالي للناسِ إماماً.
ولقد فصَّلَ اللهُ تعالى في قرآنِه العظيم الصفاتِ التي يتعيَّنُ على هذا “الإمام” أن يتحلَّى بها حتى يكونَ أهلاً لينالَه عهدُ الله هذا. وهذه الصفاتُ قد بيَّنتها سورةُ الفرقان في آياتِها التي فصَّلَ اللهُ تعالى فيها حالَ “عبادِ الرحمنِ” معه. و”عبادُ الرحمنِ” هؤلاء هُم الذين جعلَهم اللهُ تعالى لعبادِه المتقين إماماً من بعدِ أن أصبحوا أهلاً لذلك أما وأنَّهم قد اتقوا اللهَ حقَّ تقاتِه وآمنوا به حقَّ الإيمان كما بيَّنت ذلك وفصَّلته سورةُ الفرقان: (وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْنًا وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلَامًا(63)وَالَّذِينَ يَبِيتُونَ لِرَبِّهِمْ سُجَّدًا وَقِيَامًا(64)وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا اصْرِفْ عَنَّا عَذَابَ جَهَنَّمَ إِنَّ عَذَابَهَا كَانَ غَرَامًا(65)إِنَّهَا سَاءَتْ مُسْتَقَرًّا وَمُقَامًا(66)وَالَّذِينَ إِذَا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَامًا(67)وَالَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ وَلَا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَلَا يَزْنُونَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَامًا(68)يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَانًا(69)إِلَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا صَالِحًا فَأُولَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا(70)وَمَنْ تَابَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَإِنَّهُ يَتُوبُ إِلَى اللَّهِ مَتَابًا(71)وَالَّذِينَ لَا يَشْهَدُونَ الزُّورَ وَإِذَا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِرَامًا(72)وَالَّذِينَ إِذَا ذُكِّرُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ لَمْ يَخِرُّوا عَلَيْهَا صُمًّا وَعُمْيَانًا(73)وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَامًا (٧٤)).
يتبيَّنُ لنا، وبتدبُّرِ هذه الآياتِ الكريمة، أنَّ الأمرَ ليسَ كما يظنُّ كثيرٌ منا ويتوهَّم! فليست صفةُ “إمام” بالأمرِ الهيِّن حتى يُطلقَها على نفسِهِ كلُّ مَن توسًّمَ الناسُ فيهِ من الخصالِ والصفاتِ ما تجعلُهُ في نظرِهم أهلاً لأن يكونَ لهم إماماً! فمَن لم يكن حالُه مع اللهِ تعالى حالَ “عبادِ الرحمن”، الذين فصَّلت حالَهم مع اللهِ تعالى الآياتُ الكريمة أعلاه من سورةِ الفرقان، فلا “إمامةَ” له ولا يستحقُّ بالتالي أن يكونَ للمتقين إماماً!