
أمَرَ اللهُ تعالى رسولَه الكريم صلَّى اللهُ تعالى عليه وسلَّم بأن يصفحَ الصفحَ الجميل: (فَاصْفَحِ الصَّفْحَ الْجَمِيلَ) (من 85 الحِجر).
ولقد شدَّدَ اللهُ تعالى في قرآنِه العظيم على أمرِه هذا في مَوطنَين آخرَين:
1- (فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاصْفَحْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ) (من 13 المائدة).
2- (فَاصْفَحْ عَنْهُمْ وَقُلْ سَلَامٌ فَسَوْفَ يَعْلَمُون) (89 الزخرف).
وأمرُ اللهِ تعالى هذا لرسولِه الكريم صلَّى اللهُ تعالى عليه وسلَّم بوجوبِ “الصفحِ” لم يستثنِ منه أحداً من الذين آمنوا، وهذا ما بوسعِنا أن نتبيّنَهُ بتدبُّرِ قَولِ اللهِ تعالى في الآياتِ الكريمةِ التالية:
1- (فَاعْفُوا وَاصْفَحُوا) (من 109 البقرة).
2- (وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلَا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ) (من 22 النور).
3- (وَإِنْ تَعْفُوا وَتَصْفَحُوا وَتَغْفِرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) (من 14 التغابن).
و”الصفحُ”، الذي أمرَ اللهُ تعالى به رسولَه الكريم صلَّى اللهُ تعالى عليه وسلَّم والذين آمنوا، هو “الإعراضُ عن الخوضِ فيما يخوضُ فيه عادةً المتجادِلون”. فالإنسانُ خُلِقَ مُجادِلاً مُخاصماً يُؤثِرُ الجدَل: (وَكَانَ الْإِنْسَانُ أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلًا) (من 54 الكهف)، وخُلِقَ عَجولاً فلكأنَّهُ قد خُلِقَ، وكما يقولُ قرآنُ اللهِ العظيم، “مِن عَجَل”! وأمرُ اللهِ تعالى بلزومِ “الصفح” إنما هو تأديبٌ للنفسِ وتزكيةٌ لها وتطهيرٌ للعبدُ مِما تشتملُ عليه نفسُهُ من رزايا وموبِقات. وهذه الصفاتُ كلُّها جميعاً تجنحُ بالعبدِ صَوبَ وِجهةٍ لن تجعلَهُ يحظى معها بِغيرِ مَقتِ اللهِ تعالى في هذه الحياةِ الدنيا وبغيرِ الخلودِ بعدَها في نارِ الآخرةِ أبدَ الآبدين.
وإذا كان الإنسانُ قد جُبِلَ على الجدَلِ والمجادلةِ والجِدال حرصاً منه على الانتصارِ لنفسِهِ ولهَواه على حسابِ الحقِّ وحدودِ الله، فإنَّ أمرَ اللهِ تعالى بوجوبِ لزومِ “الصفح” سيجعلُ كلَّ مَن يمتثلُ له “يتطهَّرُ” من رزايا نفسِهِ وموبِقاتِها وبِما يُقرِّبُه من اللهِ تعالى ويدنو بهِ من عظيمِ فضلِهِ ونَعمائِه. فاللهُ تعالى إذ أمرَنا بالصفحِ، فإنَّه إنما يُريدُنا أن نزدادَ إيماناً بالآخرةِ التي جعلَ الإيمانَ بها رُكناً لا قِيامَ لإسلامِ العبدِ إلا به. فالساعةُ آتيةٌ والقيامةُ قائمةٌ واللهُ تعالى جامِعُ الناسِ لِيومِ الحسابِ لاريب فيه، فلماذا ينشغلُ العبدُ إذاً بالسفاسفِ والتُّرَهاتِ وتوافِهِ الأمور فيخوضُ فيما يخوضُ فيه الخائضونَ من جدالٍ عقيمِ؟! ولماذا الحرصُ على أن يقتصَّ العبدُ من الذين أساؤوا إليهِ إذا كان اللهُ تعالى هو مَن سيقتصُّ منهُم يومَ الحساب؟!
وهذا هو عينُ ما بوسعِنا أن نتبيَّنَهُ بتدبُّرِنا قَولَ اللهِ تعالى: (وَإِنَّ السَّاعَةَ لَآتِيَةٌ فَاصْفَحِ الصَّفْحَ الْجَمِيلَ).