
نقرأُ في سورةِ مريم الآياتِ الكريمةَ التالية: (فَأَجَاءَهَا الْمَخَاضُ إِلَى جِذْعِ النَّخْلَةِ قَالَتْ يَا لَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هَذَا وَكُنْتُ نَسْيًا مَنْسِيًّا. فَنَادَاهَا مِنْ تَحْتِهَا أَلَّا تَحْزَنِي قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ سَرِيًّا. وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ تُسَاقِطْ عَلَيْكِ رُطَبًا جَنِيًّا. فَكُلِي وَاشْرَبِي وَقَرِّي عَيْنًا فَإِمَّا تَرَيِنَّ مِنَ الْبَشَرِ أَحَدًا فَقُولِي إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمَنِ صَوْمًا فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنْسِيًّا) (23- 26 مريم).
يقرأُ كثيرٌ منا هذه الآياتِ الكريمة قراءةً تغفلُ عن تدبُّرِ ما وردَ فيها من عجيبِ قدرةِ اللهِ تعالى. فلا النخلةُ، التي أمرَ اللهُ تعالى السيدةَ مريم أن تهزَّ إليها بجذعِها، كانت قبلَ أن تلتجئَ إليها السيدةُ مريم “ذاتَ طَلعٍ نضيد”، ولا كانَ بجوارِها “ماءٌ سَريٌّ” كأنَّه الغدير! ولكنها إرادةُ اللهِ، والتي هي عينُ قدرتِه، هي التي جعلت النخلةَ تُثمِرُ رُطباً جنياً “بلمحِ البصر” ما أن هزَّت السيدةُ مريم إليها بجذعِها! وقدرةُ اللهِ، والتي هي عينُ إرادتِه، هي التي جعلت الأرضَ تتفجَّرُ ماءً سَرياً كأنَّه الغدير!
ولقد أرادَ اللهُ تعالى بهذا الذي أجراهُ أمامَ ناظرَي السيدةِ مريم من عجيبِ الأمورِ وغريبِها أن يُظهِرَ لها ما كانت هي بأمسِّ الحاجةِ إلى تذكُّرِه من حقيقةٍ سبقَ لها وأن خبِرتها بنفسِها: (كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا الْمِحْرَابَ وَجَدَ عِنْدَهَا رِزْقًا قَالَ يَا مَرْيَمُ أَنَّى لَكِ هَذَا قَالَتْ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ) (من 37 آل عمران). فالنخلةُ ما كانت لتطرحَ “رُطَباً جَنياً” في عزِّ الشتاء لولا أنَّ اللهَ تعالى أمرَها بذلك! وغديرُ الماءِ ما كان للأرضِ أن تنبثقَ عنه لولا أنَّ اللهَ تعالى هو من أمرَها بذلك.