
يَحِقُّ لكلِّ مَن يتدبَّرُ القرآنَ العظيم أن يتساءلَ عن العلةِ من وراءِ إحجامِ اللهِ تعالى عن “التدخُّلِ” في مسارِ الأحداث التي جاءتنا سورةُ يوسف بنبئِها، وذلك بأن يصرفَ عن سيدِنا يوسفَ كيدَ إخوته. فاللهُ تعالى كان بمقدورِه أن يصرفَ عن سيدِنا يوسفَ كيدَ إخوتِه، فيَحولَ بذلك دون أن يُفارقَ يوسفُ أباه يعقوب عليهما السلام. فسورةُ يوسف تنبؤنا، وفي أكثرِ من موطن، بأنَّ اللهَ تعالى علَّمَ سيدَنا يعقوبَ ما لم يعلِّم أبناءَه الذين كادوا لأخيهم يوسفَ فأبعدوه عنه عليه السلام: (وَإِنَّهُ لَذُو عِلْمٍ لِمَا عَلَّمْنَاهُ) (من 68 يوسف)، (وَأَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ) (من 86 يوسف). فلماذا لم يُنبئ اللهُ تعالى سيدَنا يعقوبَ بمكيدةِ أبنائه لأخيهم يوسف؟
إنَّ تدبُّرَ الأحداثِ التي أنبأتنا بها سورةُ يوسف يضطرُّ المتدبِّرَ إلى وجوبِ القولِ بأنَّ اللهَ تعالى “لم يتدخَّل” في مسارِ الأحداث ليَحولَ دونَ حدوثِ ما حدث فجعلَ ذلك سيدَنا يوسفَ يُباعُ رقيقاً ويؤخذُ إلى مصرَ ليلبثَ في أهلِها من عُمُرِه سنينَ قبل أن يمكِّنَ له اللهُ في أرضِها ويجعلَه الآمِرَ الناهيَ فيها. فاللهُ تعالى كان يريدُ لسيدِنا يوسف أن يؤخذَ إلى مصرَ ليلبثَ فيها حتى يحينَ الوقتُ الذي يُري ملكَها رؤياهُ التي لم يُفلِح أحدٌ من ملئه في تأويلِها، وحتى تنتهيَ الأحداثُ التي جرَت وقائعُها على عينِ اللهِ لسيدِنا يوسف إلى أن يُصبِحَ، ومن بعدِ تأويلِه لرؤيا الملك، “المكينَ الأمين” الذي كان في حقيقةِ الأمرِ هو حاكمَ مصرَ الحقيقي. وكلُّ ذلك كان حتى يُمكَّنَ سيدُنا يوسف من أن يكونَ له “الصوتُ المسموعُ” الذي لولاه ما كان لمصرَ، ولا لغيرِها من البلدانِ المحيطةِ بها، أن تنجوَ من سنواتِ الجفافِ السبع! وفي هذا ما فيه من آثارِ رحمةِ اللهِ تعالى بخلقِه. فلولا أنَّ اللهَ تعالى جعلَ سيدَنا يوسفَ في المكانِ المناسب، وفي الوقتِ المناسب، لهلكَ ملايينٌ من البشر، ولما كان ليبقى من ذريةِ سيدِنا إبراهيم من إبنِه إسحق أحدٌ أبداً.