
نقرأُ في سورةِ آل عمران، وفي الآية الكريمة 180 منها، قولَه تعالى: (وَلَا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ هُوَ خَيْرًا لَهُمْ بَلْ هُوَ شَرٌّ لَهُمْ سَيُطَوَّقُونَ مَا بَخِلُوا بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلِلَّهِ مِيرَاثُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ). فمَن هُم هؤلاء الذين “يَبْخَلُونَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ”؟
يعينُ على الإجابةِ على هذا السؤال أن نستذكرَ الآيةَ الكريمةَ التالية: (أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلَى مَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ فَقَدْ آتَيْنَا آلَ إِبْرَاهِيمَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَآتَيْنَاهُمْ مُلْكًا عَظِيمًا) (54 النساء). فهذه الآيةُ الكريمة تُشيرُ إلى “فضل الله” الذي آتاهُ اللهُ رسولَه الكريم صلَّى اللهُ تعالى عليه وسلَّم إذ أنزلَ عليه القرآنَ العظيم. وتُذكِّرُ هذه الآيةُ الكريمة بالآيةِ الكريمة 105 البقرة (مَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَلَا الْمُشْرِكِينَ أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْكُمْ مِنْ خَيْرٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَاللَّهُ يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ).
إذاً، فالآيةُ الكريمة 180 آل عمران أعلاه تُشيرُ إلى بعضٍ من أهلِ الكتاب من مُعاصري رسولِ اللهِ صلَّى اللهُ تعالى عليه وسلَّم الذين كانوا يُخفون ما آتاهم اللهُ من فضلِه من التوراةِ والإنجيل حرصاً منهم على ألا يظهرَ ما فيهما من شهادةٍ بأنَّ سيدَنا محمداً صلَّى اللهُ تعالى عليه وسلَّم هو الرسولُ الذي بشَّرَ به سيدُنا موسى وسيدُنا عيسى عليهما السلام: (وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِذْ قَالُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ قُلْ مَنْ أَنْزَلَ الْكِتَابَ الَّذِي جَاءَ بِهِ مُوسَى نُورًا وَهُدًى لِلنَّاسِ تَجْعَلُونَهُ قَرَاطِيسَ تُبْدُونَهَا وَتُخْفُونَ كَثِيرًا وَعُلِّمْتُمْ مَا لَمْ تَعْلَمُوا أَنْتُمْ وَلَا آبَاؤُكُمْ قُلِ اللَّهُ ثُمَّ ذَرْهُمْ فِي خَوْضِهِمْ يَلْعَبُونَ) (91 الأنعام)، (إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِنْ بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ أُولَئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ. إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَبَيَّنُوا فَأُولَئِكَ أَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَأَنَا التَّوَّابُ الرَّحِيمُ) (159- 160 البقرة)، (وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَتَمَ شَهَادَةً عِنْدَهُ مِنَ اللَّهِ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ) (من 140 البقرة).
يتبيَّنُ لنا إذاً، وبتدبُّرِ ما تقدَّم، أنَّ الآية الكريمة 180 آل عمران أعلاه لا تتحدثُ عن الذين يبخلون بمالِهم، فهؤلاءِ اختصَّهم اللهُ تعالى بآياتٍ كريمةٍ أخرى غيرها، ولكنَّها تتحدث عن بعضٍ من معاصري رسولِ اللهِ صلَّى اللهُ تعالى عليه وسلَّم من أهلِ الكتاب من الذين بلغَ حسدُهم لرسولِ اللهِ صلَّى اللهُ تعالى عليه وسلَّم حدَّ الكفرِ بما أُنزِّلَ عليهم من الكتاب: (وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّارًا حَسَدًا مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ فَاعْفُوا وَاصْفَحُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) (109 البقرة).