
نقرأُ في سورةِ آلِ عِمران، وفي الآية الكريمة 169 منها، قولَه تعالى (وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ). فأين هي، ومتى هي، “جنةُ الشهداء” الذين هم فيها “أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُون”؟
يظنُّ كثيرٌ منا أنَّ هذه الجنةَ هي جنةُ الآخرة، وأنَّها ليست بالتالي من مفرداتِ عالَمِنا هذا، عالَمِ الشهادة: “عالَمِ ما قبلَ يومِ القيامة”. وهذا ظنٌّ يدحضُهُ ويُفنِّدُه تدبُّرُ السياقِ القرآني الذي عرَّفنا اللهُ تعالى بمقتضاه بما سيؤولُ إليه مآلُ “الشهداء” حالَ مقتَلِهم في سبيلِ الله: (فَرِحِينَ َبِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ مِنْ خَلْفِهِمْ أَلَّا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ. يَسْتَبْشِرُونَ بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ وَأَنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُؤْمِنِينَ… فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ وَاتَّبَعُوا رِضْوَانَ اللَّهِ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ) (170- 171، 174 آل عِمران).
يتبيَّنُ لنا، وبتدبُّرِ قولِ اللهِ تعالى “وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ مِنْ خَلْفِهِمْ أَلَّا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ”، أنَّ “جنةَ الشهداء” هي في هذه الحياةِ الدنيا. فالأمرُ لا علاقةَ له بـ “جنةِ الآخرة” التي سيدخلُها الشهداءُ يومَ القيامة. فلو كان السياقُ القرآني الذي وردَ خلالَه ذكرُ “جنةِ الشهداء” يتحدثُ عن “جنةِ الآخرة” لما وردَ فيه: “يَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ مِنْ خَلْفِهِمْ”. فتدبُّرُ قولِ “الشهداء” هذا يُبيِّنُ لنا أنَّ من قُتِلَ في سبيلِ الله من الذين آمنوا مع طالوت، على سبيل المثال، يقولون هذا القولَ لمن سيُقتَلُ بعدهم في سبيل الله في المستقبل. ولو كان الأمرُ يخصُّ “جنةَ الآخرة” لما قالوا هذا القول، وذلك لأن كلَّ مَن قُتِلَ في سبيلِ الله سيُدخَلُها يومَ القيامة في الوقتِ ذاته.