
“بينَ عشيةٍ وضُحاها يُغيِّرُ اللهُ من حالٍ إلى حال” عبارةٌ شاعت في الناسِ وذاعت دون أن يُعرَفَ لها أصلٌ، ودون أن تُنسَبَ إلى قائلٍ كان أولَ مَن تفتَّقَ عنها ذهنُه. ونحن إن لم يكن بمقدورِنا أن نُحدِّدَ لها أصلاً، ونُشخِّصَ لها قائلاً، فإن ذلك لا يُحتِّمُ علينا وجوبَ ألا نبحثَ عن “المصدرِ” الذي اشتَّقَها منه أولُ مَن جرَت على لسانِه وجرى بها قلمُه.
فكيف لنا أن نتغاضى عما جاءنا به قرآنُ اللهِ العظيم من قصَصِ سيدِنا إبراهيم الذي لم يستغرقهُ الأمرُ إلا ساعاتٍ قلائلَ، هي كلُّ ما يفصلُ بين أولِ الليلِ وأولِ النهار، حتى يتبيَّنَ الجوابَ على السؤالِ الذي طالما راودَه؟ لنتدبَّر الآياتِ الكريمةَ التالية: (وَكَذَلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ. فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأَى كَوْكَبًا قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَا أُحِبُّ الْآفِلِينَ. فَلَمَّا رَأَى الْقَمَرَ بَازِغًا قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَئِنْ لَمْ يَهْدِنِي رَبِّي لَأَكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّالِّينَ. فَلَمَّا رَأَى الشَّمْسَ بَازِغَةً قَالَ هَذَا رَبِّي هَذَا أَكْبَرُ فَلَمَّا أَفَلَتْ قَالَ يَا قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ. إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ حَنِيفًا وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ) (75- 79 الأنعام).
ففي تلك الليلةِ المباركة، التي وثَّقت لها هذه الآياتُ الكريمة، اهتدى سيدُنا إبراهيم إلى أنَّ الإلهَ الحَق لا يمكنُ لمخلوقٍ أن يُمثِّلَه، وأنَّه لا يمكنُ أن “يتجسَّدَ” وفقاً لما ظنَّه هذا الفريقُ أو ذاك من الناس. فسيدُنا إبراهيم نظرَ أولَ الليلِ إلى كوكبٍ براقٍ متلألئ فخالَه الإلهَ الذي كان يتردُّدُ اسمُهُ على لسانِ قومِه. فما أن انقضت أولُ ساعةٍ من الليل حتى أفلَ الكوكبُ واجتذبَ القمرُ نظرَهُ فحسِبَه الإلهَ الذي تنبغي عبادتُه. فما أن انقضى الليلُ وانبلجَ الصبُحُ وانفردت الشمسُ بالسماء، حتى ظنَّ سيدُنا إبراهيم أنَّ الشمسَ هي ذاك الإله. فلما أن انقضى النهارُ، وأفلَت الشمسُ، تبيَّنَ له عليه السلام أنَّ الإلهَ الحق هو الذي خلقَ السمواتِ والأرضَ وما فيهما، وذلك إعمالاً منه لذاتِ المنطقِ الذي تدرَّجَ في العملِ به انتقالاً من “الكوكبِ” إلى “القمرِ” ومن ثمَّ إلى “الشمس”، وهو منطقٌ يستندُ إلى المفاضلةِ بين الأجرامِ أيُّها أكبر. فإذا كان القمرُ أكبرَ من الكوكبِ، وإذا كانت الشمسُ أكبرَ من القمر، فإنَّ ذلك يقتضي من المرءِ أن يتوجَّهَ إلى مَن ليس هنالك ما هو أكبر منه، فذاك إذاً هو الإلهُ الذي خلقَ كلَّ شيء، وذاك إذاً هو الإلهُ الأكبرُ من كلِّ كبير. ولذلك فإنَّ سيدَنا إبراهيم هو أولُ مَن تبيَّنَت له الحقيقةُ التي مفادُها أنَّ “اللهَ أكبرُ” من كلِّ شيء.
وهكذا يتبيَّنُ لنا، وبتدبُّرِ ما تقدَّم، أنَّ الإجابةَ على السؤالِ الذي كان يؤرِّقُ سيدَنا إبراهيم لم تأخذ من الزمان إلا ذاك الذي هو “بينَ عشيةٍ وضحاها”!