
اختلفَ الناسُ على مَرِّ العصورِ وتعاقُبِ الدهور في “الشفاعة”، فظنَّوا فيها الظنونَ وتوهَّموا بشأنِها ما جعلَ من العسيرِ أن يُصارَ إلى البَتِّ في هذا الذي يُحدِّدُ “مَن يَملكُها”، ويُعرِّفُ مَن هو أهلٌ بإذنِ اللهِ لأن يشفعَ لهذا أو ذاكَ من عبادِ الله. ولقد فصَّلَ اللهُ تعالى كلَّ ما من شأنِه أن يُعينَ مَن يتدبَّرُ “آياتِ الشفاعة” في قرآنِه العظيم على أن يتبيَّنَ معناها وحدودَها وشروطَها فلا يخفى بعدَها عليهِ شيءٌ من أمرِها.
فالشفاعةُ، كما بيَّنَها قرآنُ اللهِ العظيم وحدَّدَها، لا يملكُها إلا مَن أذِنَ له بذلك اللهُ تعالى: (مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ) (من 255 البقرة). والشفاعةُ بعدُ لن يحظى بها إلا من استحقَّها من عبادِ اللهِ تعالى: (وَكَمْ مِنْ مَلَكٍ فِي السَّمَاوَاتِ لَا تُغْنِي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئًا إِلَّا مِنْ بَعْدِ أَنْ يَأْذَنَ اللَّهُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَرْضَى) (26 النجم).
ولقد وردَ في سورةِ مريم، وفي الآية الكريمة 87 منها، قولُه تعالى: (لَا يَمْلِكُونَ الشَّفَاعَةَ إِلَّا مَنِ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمَنِ عَهْدًا). فكيف نفهمُ هذه الآيةَ الكريمة، وذلك على ضوءِ ما تقدَّم بيانُه بشأنِ “الشفاعة” وشرائطِها ومُحدِّداتِها؟
يُبيِّنُ لنا تدبُّرُ هذه الآيةِ الكريمة أنَّ اللهَ قد أوجبَ على نفسِه أن يجعلَ الشفاعةَ مُلكَ مَن اتَّخذَ عنده عهدا، فحقَّ له بالتالي أن يشفعَ بإذنِ الله “لمَن يشاءُ اللهُ ويرضى”. فاللهُ بيَّنَ لنا، وفي موطنٍ آخرَ من قرآنِه العظيم، أنَّه تعالى ما كان ليُخلِفَ عهدَه لمن اتَّخذَ عنده عهدا: (وَقَالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّامًا مَعْدُودَةً قُلْ أَتَّخَذْتُمْ عِنْدَ اللَّهِ عَهْدًا فَلَنْ يُخْلِفَ اللَّهُ عَهْدَهُ أَمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُون) (80 البقرة).