في معنى “يَأْتِيَ رَبُّكَ” في قَولِ اللهِ تعالى “هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلَائِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ رَبُّكَ أَوْ يَأْتِيَ بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ”

نقرأُ في الآيةِ الكريمة 158 من سورة الأنعام: (هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلَائِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ رَبُّكَ أَوْ يَأْتِيَ بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ لَا يَنْفَعُ نَفْسًا إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمَانِهَا خَيْرًا قُلِ انْتَظِرُوا إِنَّا مُنْتَظِرُونَ). فما هو معنى “يَأْتِيَ رَبُّكَ” في هذه الآيةِ الكريمة؟
تتمايزُ الحياةُ الدنيا عن الآخرة بهذا الذي جعلَها اللهُ تقومُ عليه من “أسبابٍ” لا قيامَ لها من دونها. فالحياةُ الدنيا هي “عالمُ الأسباب” حيث تجري الوقائعُ والأحداثُ وفقاً لما بثَّه اللهُ تعالى فيها من الأسباب. وهذه الأسبابُ ما كان لها أن تفعلَ فِعلَها الذي قُدِّرَ لها إلا بإذن الله. فاللهُ تعالى هو العلةُ من وراءِ هذه الأسباب التي لا تملكُ من أمرِها شيئاً طالما كان الأمرُ كلُّه لله. وكلُّ مَن يتوهَّمُ فيظنُّ أنَّ هذه الأسبابَ تكفي حتى “يُعلَّلَ” بها لما يحدثُ في الوجودِ من وقائعَ وأحداث، إنما يبرهنُ على أنَّه ما “اهتدى” إلى “حقيقةِ ما يحدثُ” في هذا الوجود؛ هذه الحقيقةُ التي لن “يُمكَّنَ” من الإحاطةِ بها مَن توقَّفَ عند “حجابِ الأسباب” ظاناً ومتوهِّماً بألاَّ أحدَ من وراءِ هذا الحِجاب يُسيِّرُ الأحداثَ فتجرِي الوقائعُ بِحَولِه وقوتِه.
ولقد فنَّدَ اللهُ تعالى هذه الظنونَ والأوهام بما أجرى على يدِ أنبيائِه المُرسَلين من “آياتٍ بيِّنات” يقفُ العقلُ عاجزاً حيالَها وهو يحاولُ جاهداً أن يتبيَّنَ “الأسبابَ” التي يظنُّ أنَّ بمقدورِها أن “تُعلِّلَ” لحدوثِها الذي يتعارضُ، كلَّ التعارضِ، مع ما قُدِّرَ له أن يحيطَ به من قوانين وأسباب! وهذا هو معنى “أَوْ يَأْتِيَ بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ” من الآية الكريمة 158 الأنعام أعلاه.
فجُلُّ ما قُدِّرَ لهذه الحياةِ الدنيا أن تحظى به من “ظهورٍ” لتجلِّي اللهِ تعالى، لا يُمثِّلُ من جملةِ ما يحدثُ فيها من الأحداثِ إلا النزرَ اليسير. فالحياةُ الدنيا لم تُخلَق حتى تكونَ العالمَ الذي بوسعِه أن يشهدَ ما يتجاوزُ هذا “النزرَ اليسير” من الوقائعِ والأحداثِ التي لا قدرةَ لغيرِ تجلياتِ الله على أن تتسبَّبَ بحدوثِها وأن “يُعلَّلَ” بالتالي لهذا الحدوثِ بها.
أما الآخرة، فهي عالَمٌ سيخلُقُه اللهُ تعالى مؤهلاً حتى تكونَ العلةَ من وراءِ كلِّ وقائعِه وأحداثِه هي تجلياتُ اللهِ تعالى هذه. وعالَمُ الآخرةِ هذا هو العالمُ الذي بوسعِنا أن نتبيَّنَ “تمايزَه” عن عالمِ الحياةِ الدنيا، وذلك بتدبُّر قولِ اللهِ تعالى “يَأْتِيَ رَبُّكَ” في الآية الكريمة 158 الأنعام أعلاه (هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلَائِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ رَبُّكَ أَوْ يَأْتِيَ بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ). فقولُ اللهِ تعالى “يَأْتِيَ رَبُّكَ” يشيرُ إلى تجلِّي اللهِ تعالى يومَ القيامة، وبما يُذكِّرُ بتجلِّيه للجبلِ في الآية الكريمة (وَلَمَّا جَاءَ مُوسَى لِمِيقَاتِنَا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ قَالَ رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ قَالَ لَنْ تَرَانِي وَلَكِنِ انْظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ فَسَوْفَ تَرَانِي فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا وَخَرَّ مُوسَى صَعِقًا) (من 143 الأعراف).
إنَّ “تجلِّيَ الله”، إذ هو المعنى الذي ينطوي عليه قولُه تعالى “يَأْتِيَ رَبُّكَ”، لَيذكِّرُ بالآيةِ الكريمة (وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا) (22 الفجر). فاللهُ تعالى “إذ يجيء” يومَ القيامة، فإنَّه “يتجلَّى” التجلِّيَ الذي بوسعِنا الآن أن نتبيَّنَه بتدبُّرِ ما جاءتنا به الآيةُ الكريمة: (هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمَامِ وَالْمَلَائِكَةُ وَقُضِيَ الْأَمْرُ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ) (210 البقرة).

1 comments

أضف تعليق