
قالَ سيدُنا المسيح عليه السلام مخاطباً قومَه: (وَجَعَلَنِي مُبَارَكًا أَيْنَ مَا كُنْتُ) (من 31 مريم). فما الذي قصدَ إليه سيدُنا المسيح عليه السلام بقولِه هذا؟
يُعينُنا على تبيُّنِ هذا المقصدِ الشريف أن نستذكرَ ما جاءتنا به سورةُ المائدة في الآيةِ الكريمة 110 منها (إِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ اذْكُرْ نِعْمَتِي عَلَيْكَ وَعَلى وَالِدَتِكَ إِذْ أَيَّدْتُكَ بِرُوحِ الْقُدُسِ تُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلًا وَإِذْ عَلَّمْتُكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ وَإِذْ تَخْلُقُ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ بِإِذْنِي فَتَنْفُخُ فِيهَا فَتَكُونُ طَيْرًا بِإِذْنِي وَتُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ بِإِذْنِي وَإِذْ تُخْرِجُ الْمَوْتَى بِإِذْنِي وَإِذْ كَفَفْتُ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَنْكَ إِذْ جِئْتَهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُبِين)، وكذلك ما جاءتنا به الآيةُ الكريمة 49 من سورةِ آل عمران (وَرَسُولًا إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنِّي قَدْ جِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ أَنِّي أَخْلُقُ لَكُمْ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ فَأَنْفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْرًا بِإِذْنِ اللَّهِ وَأُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ وَأُحْيِي الْمَوْتَى بِإِذْنِ اللَّهِ وَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا تَأْكُلُونَ وَمَا تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ).
وهنا لابد لنا من أن نتبيَّنَ ما بوسعِ هذه “البركة”، التي اختصَّ اللهُ تعالى بها سيدَنا عيسى إبنَ مريم، أن تفعلَه من عجيبِ الأمورِ وغريبِها، ومما لا يتَّفقُ مع “معقولاتِنا” التي صاغَها العلمُ الذي بين أيدينا. فالعلمُ الذي قُدِّرَ لنا أن نُحيطَ به لا يملكُ غيرَ أن يجزمَ باستحالةِ حدوثِ ما فصَّلته لنا وبيَّنته هاتانِ الآيتانِ الكريمتانِ من تجلياتِ “بركةِ اللهِ” التي أنعمَ بها على سيدِنا المسيح عليه السلام. فالعلمُ لا قدرةَ له على أن يُحيطَ بما لم يُقدَّر له أن يعلمَ عنه شيئاً من أمورِ الوجود. و”بركةُ الله”، التي اختصَّ اللهُ تعالى بها سيدَنا عيسى ابنَ مريم عليه السلام، لا قدرةَ لشيءٍ على أن يحولَ دون أن تتجلى معجزاتٍ وخوارقَ عادات لا سبيلَ للتعليلِ لها إلا بأن نُقِرَّ بأنَّ اللهَ تعالى هو مَن تسبَّبَ بها، وإن كان في ذلك ما يتعارضُ مع ما يظنُّ العلمُ الذي بين أيدينا أنها “قوانينٌ لا قدرةَ لأحدٍ على أن يتسلَّطَ بجبورتِه عليها”.