في معنى قولِ اللهِ تعالى “وَلَا تَكُنْ كَصَاحِبِ الْحُوتِ”

خاطبَ اللهُ تعالى رسولَه الكريم صلَّى اللهُ تعالى عليه وسلَّم بآياتٍ اختصَّه بها من دونِ العالمين اختصاصاً لا يجوزُ بعده اجتزاؤها من سياقِها الذي لا ينبغي لغيرِه صلَّى اللهُ تعالى عليه وسلَّم. ومن بين هذه الآياتِ الكريمة (إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا) (1 الفتح)، (وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَى) (5 الضحى)، (أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ) (1 الشرح)، (وَلَقَدْ آتَيْنَاكَ سَبْعًا مِنَ الْمَثَانِي وَالْقُرْآنَ الْعَظِيمَ) (87 الحجر)، (فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنَا) (من 48 الطور)، (وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ) (من 67 المائدة).
ومن هذه الآياتِ الكريمةِ أيضاً: “وَلَا تَكُنْ كَصَاحِبِ الْحُوتِ” (من 48 القلم). فلماذا أمرَ اللهُ تعالى رسولَه الكريم صلَّى اللهُ تعالى عليه وسلَّم بألا يكونَ “كصاحبِ الحوت” (والذي هو سيدُنا يونس عليه السلام)؟
فسيدُنا يونس عليه السلام كان من المُسبِّحين (فَلَوْلَا أَنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُسَبِّحِينَ) (143 الصافات). واللهُ تعالى ذكرَ سيدَنا يونس فيمن ذكر من أنبيائِه المُرسلين الذين امتدحهم فقال فيهم (إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَوْحَيْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَعِيسَى وَأَيُّوبَ وَيُونُسَ وَهَارُونَ وَسُلَيْمَانَ وَآتَيْنَا دَاوُدَ زَبُورًا) (163 النساء)، (وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ كُلًّا هَدَيْنَا وَنُوحًا هَدَيْنَا مِنْ قَبْلُ وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ دَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ وَأَيُّوبَ وَيُوسُفَ وَمُوسَى وَهَارُونَ وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ. وَزَكَرِيَّا وَيَحْيَى وَعِيسَى وَإِلْيَاسَ كُلٌّ مِنَ الصَّالِحِينَ. وَإِسْمَاعِيلَ وَالْيَسَعَ وَيُونُسَ وَلُوطًا وَكُلًّا فَضَّلْنَا عَلَى الْعَالَمِينَ) (84- 86 الأنعام). فاللهُ تعالى أمرَ رسولَه الكريم صلَّى اللهُ تعالى عليه وسلَّم بأن يقتديَ بهدى أنبيائه المُرسَلين ومنهم سيدُنا يونس عليه السلام (أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهِ) (من 90 الأنعام). فلماذا أمرَ اللهُ تعالى رسولَه الكريم صلَّى اللهُ تعالى عليه وسلَّم إذاً بألا يكونَ كسيدِنا يونس “وَلَا تَكُنْ كَصَاحِبِ الْحُوتِ”؟
يتكفَّلُ بالإجابةِ على هذا السؤال أن نستذكرَ ما كان سيدُنا محمد صلَّى اللهُ تعالى عليه وسلَّم يمرُّ به من ضيقٍ شديد جراء صدِّ وإعراضِ قومِه عنه: (وَإِنْ كَانَ كَبُرَ عَلَيْكَ إِعْرَاضُهُمْ فَإِنِ اسْتَطَعْتَ أَنْ تَبْتَغِيَ نَفَقًا فِي الْأَرْضِ أَوْ سُلَّمًا فِي السَّمَاءِ فَتَأْتِيَهُمْ بِآيَةٍ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَمَعَهُمْ عَلَى الْهُدَى فَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْجَاهِلِين) (35 الأنعام)، (وَاصْبِرْ وَمَا صَبْرُكَ إِلَّا بِاللَّهِ وَلَا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلَا تَكُ فِي ضَيْقٍ مِمَّا يَمْكُرُون) (127 النحل)، (قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الَّذِي يَقُولُونَ فَإِنَّهُمْ لَا يُكَذِّبُونَكَ وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ) (33 الأنعام).
فسيدُنا يونس ذهبَ مغاضباً إذ كذَّبَه مَن أرسلَه اللهُ تعالى إليهم رسولاً بشيراً ونذيراً، فما كان منه إلا أن خرجَ من قريتهم عاقدَ العزمِ على ألا يعودَ إليها مرةً أخرى، فأبِقَ إلى الفُلكِ لا يلوي على شيء: (وَذَا النُّونِ إِذْ ذَهَبَ مُغَاضِبًا فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ فَنَادَى فِي الظُّلُمَاتِ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ) (87 الأنبياء)، (وَإِنَّ يُونُسَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ. إِذْ أَبَقَ إِلَى الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ. فَسَاهَمَ فَكَانَ مِنَ الْمُدْحَضِينَ. فَالْتَقَمَهُ الْحُوتُ وَهُوَ مُلِيمٌ) (139- 142 الصافات).
فاللهُ تعالى أمرَ رسولَه الكريم صلَّى اللهُ تعالى عليه وسلَّم بألا يعجلَ على قومِه وألا يستعجلَ لهم وأن يصبرَ لحُكمِ ربِّه حتى يجيءَ نصرُ الله (فَلَا تَعْجَلْ عَلَيْهِمْ إِنَّمَا نَعُدُّ لَهُمْ عَدًّا) (84 مريم)، (َفاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ) (من 60 الروم)، (فَاصْبِرْ إِنَّ الْعَاقِبَةَ لِلْمُتَّقِينَ) (من 49 هود).
ولذلك أمرَ اللهُ تعالى رسولَه الكريم صلَّى اللهُ تعالى عليه وسلَّم بألا يكونَ كصاحبِ الحوت: (فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ وَلَا تَكُنْ كَصَاحِبِ الْحُوتِ إِذْ نَادَى وَهُوَ مَكْظُومٌ) (48 القلم).

أضف تعليق