
يظنُّ كثيرٌ منا أنَّ الإنسانَ بإمكانِه أن يتحكَّمَ بعقلِه دون أن يُمكِّنَ نفسَه من أن يُخالِطَ سمُّها أحكامَه! وهذا ظنٌّ يدحضُهُ ويُفنِّدُه واقعُ الحالِ الذي عليه السوادُ الأعظمُ من بَني آدم! فكَم منا بمقدورِه حقاً أن يتبيَّنَ الحدودَ التي تفصلُ بين العقلِ والنفس فيكونَ له بالتالي أن يُلزِمَ نفسَه هذه الحدودَ فلا تتجاوزُها وتتعداها؟!
فواقعُ الحالِ هذا لا يَني يُبرهنُ لنا على أنَّ “أُولي العقولِ” هم أكثرُ أهلِ الأرضِ إمعاناً في الإذعانِ لما تأمرُهم به أنفسُهم وتدعوهم إليه، وإن كان في ذلك ما يتعارضُ ويتناقضُ مع أحكامِ العقلِ التي يتبجَّحون بعظيم مقدرتِهم على استنباطِها وإتقانِ العملِ بموجبِها! ويتجلى ذلك بهذا الذي لن يكونَ بالعسيرِ علينا أن نتبيَّنَه في الجدالات العقيمة التي نخوضُها وكلُّنا ثقةٌ بأنَّنا لابد وأن نتوافقَ خاتمةَ المطاف على نتيجةٍ لا نختلفُ بعدها، حتى إذا ما شرعنا يجادلُ بعضُنا بعضاً تمكَّنت النفسُ من التغلغلِ والتسلُّلِ إلى جدالِنا لتكونَ النتيجةُ بعدها عجزٌ عن التوصُّلِ إلى أي “حُكمٍ عقلي” نتوافقُ عليه فيما بيننا! وما ذلك إلا لأن الاحتكامَ إلى العقلِ، دون إدراكٍ للحدودِ الفاصلةِ بينه وبين النفس، لن يُفضِيَ بنا إلى ما نصبو إليه ونرجو من توافقٍ بين عقولِنا طالما كانت أحكامُ العقلِ هي مرجِعُنا الذي نحتكمُ إليه! فنحن لن يكونَ بمقدورِنا أن نُحصِّن عقولَنا، فلا نُمكِّنَ “النفسَ” منها، إلا بأن نُسلِّطَ عليها ما لا قدرةَ لها على الإفلاتِ من مُحكَمِ قبضته، وهي تحاولُ جاهدةً أن تتجاوزَ “الحدودَ الفاصلة بين العقلِ والنفس” وتتعداها، إلا بالإيمانِ بالله؛ هذا الإيمانُ الذي وحدَه بوسعِه أن يحولَ دونَ تمكُّنِ النفسِ من عقولِنا.