
كان المسلمون في المدينةِ مُحاطين بأعداءِ اللهِ من الذين أشركوا، ومُخترَقين من قِبَل المنافقين الذين أبطنوا ما لم يُظهِروا فكانوا بذلك بمأمنٍ من أن يُفتضَحَ أمرُهم (لَا تَعْلَمُهُمْ نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ) (من 101 التوبة)، (لَا تَعْلَمُونَهُمُ اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ) (من 60 الأنفال)، (وَلَوْ نَشَاءُ لَأَرَيْنَاكَهُمْ فَلَعَرَفْتَهُمْ بِسِيمَاهُمْ وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ) (من 30 محمد).
وفاقمَ الأمرَ شدةً أنَّ المدينةَ كانت موطِنَ مَن سبق وأن ارتحلَ إليها من الذين كفروا من أهلِ الكتاب. ولذلك فلقد كان حالُ المسلمين في المدينةِ يقتضي أن يكونَ بين أيديهم ما يُعينُ على تبيُّنِ الكيفيةِ المُثلى للتعامُلِ مع ما تقدَّمَ ذكرُه من صنوفِ الأعداء. ولذلك أيضاً استوجبَ الأمرُ أن يكونَ هذا التمييزُ بين الأعداءِ و”المسالمين” موكولاً إلى اللهِ تعالى، فلا يكونُ الأمرُ وفقَ ما يرتأيه العقلُ أو تقضي به النفسُ أو يُزيِّنُه الهوى.
ولقد حسمَ اللهُ تعالى هذا الأمرَ بقَولِه الفصل: (لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِين) (8 الممتحنة). ولذلك فلقد كفَّ المسلمون أيديَهم عن كلِّ مَن كان حالُه معهم موافقاً لما فصَّلته وبيَّنته هذه الآيةُ الكريمة.
فما أحوجَنا اليومَ إلى ما كان عليه الرعيلُ الأولُ من المسلمينَ، من الذين استجابوا للهِ تعالى فأطاعوه ولم يُخالِفوا عن أمرِه، فلم يتَّبعوا ما تأمرُهم به النفسُ ويُزيِّنُه لهم الهوى! وأين نحن اليومَ من أولئك المؤمنين الصادقين الذين حالَت إطاعتُهم للهِ ورسولِه صلَّى اللهُ تعالى عليه وسلَّم دون أن تزُجَّ بهم العصبيةُ بعيداً عن جادةِ الحق فيُمكِّنوا النفسَ من قلوبِهم وعقولِهم؟! فهل يُعقَلُ أن يأمرَنا اللهُ تعالى بأن نلزمَ حدودَه فلا نتعداها، وتكونُ استجابتُنا لأمرِه هذا هي على هذا النحو الذي جعلَ العالمَ ينظرُ إلينا فلا يرى فينا إلا مجانينَ مهووسينَ بالعدوان الظالمِ على كلِّ مَن خالفَنا الرأيَ والمعتقد؟!