كيف كان حالُ الوجودِ قبلَ أن يصطفِيَ اللهُ تعالى آدمَ ليكونَ في الأرضِ خليفة؟

لم يكن في الوجودِ، قبل أن يأذنَ اللهُ تعالى بحدوثِ ما جعلَ في الأرضِ مَن يُفسِدُ فيها ويسفكُ الدماء، شرٌّ على الإطلاق! فالوجودُ، بكلِّ ما كان ومن كان فيه، كان يُسبِّحُ للهِ دون أن يكونَ هناك مَن يبثُّ في ربوعِهِ الشرَّ أو الفوضى. وحتى إبليسَ لم يكن حينها قد أظهرَ تمرُّدَه على اللهِ تعالى بعد. وهذا التصوُّرُ لما كان عليه الوجودُ قبلَ ظهورِ مَن كان يُفسِدُ في الأرضِ ويسفكُ الدماء، هو ما بوسعِنا أن نتبيَّنَه بتدبُّرِ ما جاءنا به قرآنُ اللهِ العظيم من أنباءِ الغيب التي لا قدرةَ لإنسانٍ على أن يُحيطَ بشيءٍ منها ولو أعانَه على ذلك بنو آدمَ كلُّهم جميعاً!
وهذا التصويرُ القرآنيُّ لحالِ الوجودِ، قبل أن يصطفيَ اللهُ تعالى آدمَ ليكونَ في الأرضِ خليفة، لَيتناقضُ مع ما خلُصَ إليه العقلُ البشري، على مرِّ العصورِ وتعاقُبِ الدهور، من زعمٍ مفادُه “أن الشرَّ لابد منه حتى تقومَ للوجودِ قائمة”؛ إذ لا ثنائيةَ هنالك في الكونِ ولا ازدواجية، وذلك كما يزعمُ القائلون بأنَّ “تواجُدَ الأضداد” هو العلةُ من وراءِ بقاءِ الوجود! فالوجودُ باقٍ ما أمسكَه اللهُ تعالى، ولن يزولَ الوجودُ ويفنى حتى يُمسِكَه أحدٌ غيرُ الله، وهذا أمرٌ ما كان ولن يكون (إِنَّ اللَّهَ يُمْسِكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ أَنْ تَزُولَا وَلَئِنْ زَالَتَا إِنْ أَمْسَكَهُمَا مِنْ أَحَدٍ مِنْ بَعْدِهِ) (من 41 فاطر)، (وَيُمْسِكُ السَّمَاءَ أَنْ تَقَعَ عَلَى الْأَرْضِ إِلَّا بِإِذْنِهِ) (من 65 الحج).
فلقد كان أولُ ظهورٍ للشرِّ في هذا الوجود هو عندما التاثت أدمغةُ البعضِ من كائناتِه بما جعلَها تُفسِدُ في الأرضِ وتسفكُ الدماء. ولأنَّ هذا الأمرَ لم يكن ليستقيمَ مع “نظامِ الله”، الذي به استقامَ الوجودُ، فلقد كان حقيقاً على اللهِ تعالى أن يستأصلَ ذلك الشرَّ، مما اقتضى أن يُرسِلَ ملائكتَه ليُبيدوا المتسبِّبَ فيه. ولقد أمرَ اللهُ تعالى ملائكتَه هؤلاء بأن يُبقوا على “خليفةٍ” فلا يُصيبُه ما أصابَ القومَ المفسدين.
ولقد جعلَ ذلك من الشرِّ يُكشِّرُ عن أنيابه، وذلك عندما اضطرَّ أمرُ اللهِ تعالى للملائكةِ بأن يسجدوا لآدم إبليسَ إلى الإفصاحِ عن مكنونِ تمرُّدِه على اللهِ تعالى فجاهرَ بعصيانِه وأبدى ما كان يظنُّ أنَّه قد أفلحَ في إضمارِه وكتمانه من قبل! وهكذا فلقد أصبحَ للشرِّ مَن بمقدورِه أن يتَّكِلَ عليه، وذلك من بعدِ أن أذِنَ اللهُ تعالى لإبليسَ، وقبيلِه من الجن، بأن يشنُّوا حربَهم على بَني آدم! وهنا لابد وأن نستدركَ بالقولِ بأنَّ اللهَ تعالى ما جعلَ للشيطانِ، ولا لجُنده ورَجِله وقبيلِه، من سلطانٍ على بني آدم إلا أولئك الذين استجابوا لما يدعوهم إليه الشيطان (وَقَالَ الشَّيْطَانُ لَمَّا قُضِيَ الْأَمْرُ إِنَّ اللَّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ وَوَعَدْتُكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ وَمَا كَانَ لِي عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ إِلَّا أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي فَلَا تَلُومُونِي وَلُومُوا أَنْفُسَكُمْ مَا أَنَا بِمُصْرِخِكُمْ وَمَا أَنْتُمْ بِمُصْرِخِيَّ إِنِّي كَفَرْتُ بِمَا أَشْرَكْتُمُونِي مِنْ قَبْلُ إِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ) (22 إبراهيم).
إلا أنَّ ما ينبغي التشديدُ عليه هنا هو أنَّ آيةَ بُطلانِ زعمِ أولئك الذين يقولون بأنَّ “الشرَّ لابد منه حتى يتحقَّقَ التوازُنُ الذي من دونِه يزولُ الوجودُ ويفنى”، هي ما سيؤولُ الأمرُ إليه يومَ تقومُ الساعةُ، ويحكمُ اللهُ بين العباد ليُخلَّدَ بعدها في نارِ جهنم الشيطانُ وحزبُه من الجنِّ والإنس! فلو كان الشرُّ هو حقاً أمرٌ لابد منه حتى تقومَ للوجودِ قائمة، فكيف يُعلِّلُ القائلون بهذا الزعم لما ستؤولُ إليه الأمورُ يومَ القيامة، يومَ ينتهي الأمرُ بالأشرارِ إلى الخلودِ في نارِ جهنم؟!

اترك تعليقًا

إملأ الحقول أدناه بالمعلومات المناسبة أو إضغط على إحدى الأيقونات لتسجيل الدخول:

شعار ووردبريس.كوم

أنت تعلق بإستخدام حساب WordPress.com. تسجيل خروج   /  تغيير )

صورة تويتر

أنت تعلق بإستخدام حساب Twitter. تسجيل خروج   /  تغيير )

Facebook photo

أنت تعلق بإستخدام حساب Facebook. تسجيل خروج   /  تغيير )

Connecting to %s