
يُصِرُّ الذين في قلوبِهم مَرضٌ، وفي عقولِهم غرَض، على أنَّ “الأعرابَ” لم يُذكروا بخَيرٍ في قرآنِ اللهِ العظيم على الإطلاق! ويستشهدُ هؤلاءِ بطائفةٍ من الآياتِ الكريمة التي ندَّدَ اللهُ تعالى فيها بالأعرابِ مُفصِّلاً ما هم عليه من شديدِ كفرٍ ونفاق: (الْأَعْرَابُ أَشَدُّ كُفْرًا وَنِفَاقًا وَأَجْدَرُ أَلَّا يَعْلَمُوا حُدُودَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ. وَمِنَ الْأَعْرَابِ مَنْ يَتَّخِذُ مَا يُنْفِقُ مَغْرَمًا وَيَتَرَبَّصُ بِكُمُ الدَّوَائِرَ عَلَيْهِمْ دَائِرَةُ السَّوْءِ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ) (97-98 التوبة)، (وَمِمَّنْ حَوْلَكُمْ مِنَ الْأَعْرَابِ مُنَافِقُونَ وَمِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ مَرَدُوا عَلَى النِّفَاقِ لَا تَعْلَمُهُمْ نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ سَنُعَذِّبُهُمْ مَرَّتَيْنِ ثُمَّ يُرَدُّونَ إِلَى عَذَابٍ عَظِيمٍ) (101 التوبة)، (سَيَقُولُ لَكَ الْمُخَلَّفُونَ مِنَ الْأَعْرَابِ شَغَلَتْنَا أَمْوَالُنَا وَأَهْلُونَا فَاسْتَغْفِرْ لَنَا يَقُولُونَ بِأَلْسِنَتِهِمْ مَا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ) (من 11 الفتح).
وبذلك يُقِيمُ القومُ الحجةَ على أنفسِهم أنَّهم قومٌ “مُغرضون”، وذلك لأنَّهم أغفلوا ذِكرَ مواطنَ أخرى في القرآنِ العظيم أشادَ اللهُ تعالى فيها بالأعراب وامتدحهم: (وَمِنَ الْأَعْرَابِ مَنْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَيَتَّخِذُ مَا يُنْفِقُ قُرُبَاتٍ عِنْدَ اللَّهِ وَصَلَوَاتِ الرَّسُولِ أَلَا إِنَّهَا قُرْبَةٌ لَهُمْ سَيُدْخِلُهُمُ اللَّهُ فِي رَحْمَتِهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) (99 التوبة)، (مَا كَانَ لِأَهْلِ الْمَدِينَةِ وَمَنْ حَوْلَهُمْ مِنَ الْأَعْرَابِ أَنْ يَتَخَلَّفُوا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ وَلَا يَرْغَبُوا بِأَنْفُسِهِمْ عَنْ نَفْسِهِ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ لَا يُصِيبُهُمْ ظَمَأٌ وَلَا نَصَبٌ وَلَا مَخْمَصَةٌ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا يَطَئُونَ مَوْطِئًا يَغِيظُ الْكُفَّارَ وَلَا يَنَالُونَ مِنْ عَدُوٍّ نَيْلًا إِلَّا كُتِبَ لَهُمْ بِهِ عَمَلٌ صَالِحٌ إِنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ. وَلَا يُنْفِقُونَ نَفَقَةً صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً وَلَا يَقْطَعُونَ وَادِيًا إِلَّا كُتِبَ لَهُمْ لِيَجْزِيَهُمُ اللَّهُ أَحْسَنَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ) (120- 121 التوبة).
يتبيَّنُ لنا، وبتدبُّرِ ما تقدَّم، أنَّ تدبُّرَ القرآنِ العظيم يحتاجُ منا أن نتروَّى ونتمهَّل قبل أن نُسارِعَ إلى إطلاقِ الأحكامِ القاطعة بشأنِ أمرٍ ما! فالسياقُ الذي ترِدُ خلالَه هذه الكلمةُ القرآنيةُ أو تلك هو الذي يحدِّدُ المعنى الذي تنطوي عليه كلٌّ منهما. ويتبيَّن لنا ذلك جَلياً بتدبُّرِ ما جاءتنا به سورةُ الحجُرات في الآية الكريمة 14 منها (قَالَتِ الْأَعْرَابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ). فهذه الطائفةُ الثالثةُ من “الأعراب” هم ليسوا بالكفارِ المنافقين، وليسوا بعدُ بالمؤمنين الذين آمنوا باللهِ حقَّ الإيمان.
إنَّ الجزمَ بحُكمٍ قاطعٍ بشأنِ مسألةٍ ما، وذلك باللجوءِ إلى ما جاءنا بشأنِها قرآنُ اللهِ العظيم، لا ينبغي لنا إلا من بعدِ أن نطمئنَّ كلَّ الاطمئنان إلى أنَّنا قد أحطنا بكلِّ ما جاءنا بشأنِها قرآنُ اللهِ العظيم.