
ليس الأمرُ لنا حتى يكونَ لنا أن نتوسَّعَ في المعنى الذي تنطوي عليه عبارةٌ قرآنيةٌ ما، وذلك خارجَ الحدودِ التي يفرضها السياقُ القرآني الذي وردت خلاله. فالقرآنُ العظيم هو ليس كتاباً كغيره من الكتب حتى تكونَ لنا الحريةُ المطلقة في التعاملِ مع نصوصِه الكريمة وبما يخرجُ بها على السياقِ المحدَّدِ الذي وردت خلاله!
وأوردُ هنا مثالاً على هذا “التقييد” الذي يتوجَّبُ علينا أن نُجِلَّه ونُبجِّلَه فلا نُعمِلَ في العبارةِ القرآنيةِ عقولَنا وبما يجعلُها تحملُ ما نشاءُ لها من معنى لا يتطابقُ مع معناها الذي يتوجَّبُ علينا أن نتقيَّدَ به من دونِ زيادةٍ أو نقصان. فلقد وردت العبارةُ القرآنيةُ الكريمة “يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ” في سياقٍ ذي صلةٍ بإقامةِ اللهِ تعالى الحجةَ على طائفةٍ من أهلِ الكتابِ، من معاصري رسولِ اللهِ صلَّى اللهُ تعالى عليه وسلَّم، أبَوا أن يُقِرُّوا بأنَّ القرآنَ العظيم هو من عندِ اللهِ حقاً زعماً منهم بأنَّ اللهَ تعالى ما كان ليُنزِلَ على أحدٍ من بَني آدم كتاباً من بعدِ ما أُنزِلَ عليهم من كتاب! فجاءت حجةُ اللهِ تعالى عليهم لتُفنِّدَ زعمَهم هذا، وذلك بأن ذكَّرهم اللهُ بما يعرفون من أنَّه تعالى “يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ”، وأنَّ الفضلَ بيدِ الله يؤتيه مَن يشاءُ من عبادِه، وأنَّ الأمرَ ليس لأحدٍ من البشر حتى يفترضَ ما يشاء من الأحكام (لِئَلَّا يَعْلَمَ أَهْلُ الْكِتَابِ أَلَّا يَقْدِرُونَ عَلَى شَيْءٍ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَأَنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ) (29 الحديد).
فلقد استكثرت طائفةٌ من أهلِ الكتاب من معاصري رسولِ اللهِ أن ينزَّلَ عليه صلَّى اللهُ تعالى عليه وسلَّم كتابٌ من عندِ الله، وهم الأجدرُ بأن يتنزلُّ عليهم هذا الكتاب، وذلك بزعمهم أنَّ الكتابَ ما كان ليتنزَّلَ على أحدٍ غيرهم (وَقَالَتْ طَائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ آمِنُوا بِالَّذِي أُنْزِلَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَجْهَ النَّهَارِ وَاكْفُرُوا آخِرَهُ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ. وَلَا تُؤْمِنُوا إِلَّا لِمَنْ تَبِعَ دِينَكُمْ قُلْ إِنَّ الْهُدَى هُدَى اللَّهِ أَنْ يُؤْتَى أَحَدٌ مِثْلَ مَا أُوتِيتُمْ أَوْ يُحَاجُّوكُمْ عِنْدَ رَبِّكُمْ قُلْ إِنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ. يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ) (72- 74 آل عمران).
وهذا هو عينُ ما جاءتنا به الآيةُ الكريمة 105 من سورة البقرة والتي يتبيَّنُ لنا بتدبُّرِها أنَّ اختصاصَ اللهِ تعالى برحمته من يشاء لا علاقة له بشيءٍ غيرِ ذي صلةٍ بحجةِ اللهِ تعالى على تلك الطائفةِ من أهلِ الكتاب التي أنكرت على رسولِ اللهِ صلَّى اللهُ تعالى عليه وسلَّم أن يُنزِّلَ اللهُ تعالى عليه الكتاب (مَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَلَا الْمُشْرِكِينَ أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْكُمْ مِنْ خَيْرٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَاللَّهُ يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ).