
شاعَ في الناسِ وذاعَ أنَّ “الشفاعةَ” هي من شؤونِ الآخرة، وذلك لأنها موصولةٌ بتدخُّلِ “أصحابِ الشفاعة” عند اللهِ تعالى ليصفحَ ويعفو عن أُناسٍ سبقَ لهم من عندِه قَبولُها. و”الشفاعةُ”، بهذا المعنى، هي ليست من شؤونِ هذه الحياةِ الدنيا، وذلك كما يظنُّ ويتوهَّمُ كثيرٌ منا استناداً إلى ما ذاعَ فينا وشاعَ بشأنِها.
ويُفنِّدُ هذا الظنَّ ما جاءنا به قرآنُ اللهِ العظيم من آياتٍ كريمة يتبيَّنُ لكلِّ مَن يتدبَّرُها أنَّ “الشفاعةَ” هي من شؤونِ هذه الحياةِ الدنيا أيضاً. فاللهُ تعالى قد قَبِلَ شفاعةَ سيدِنا يعقوب في بَنيه إذ سألوه أن يستغفرَ لهم ذنوبَهم (قَالُوا يَا أَبَانَا اسْتَغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا إِنَّا كُنَّا خَاطِئِينَ. قَالَ سَوْفَ أَسْتَغْفِرُ لَكُمْ رَبِّي إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ) (97- 98 يوسف).
فاللهُ تعالى أخبرَ بأنَّه كان ليغفرَ لأولئك الذين قال فيهم (وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جَاءُوكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللَّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللَّهَ تَوَّابًا رَحِيمًا) (من 64 النساء). غيرَ أنَّ هذا لا ينبغي أن يجعلَنا نظنُّ ونتوهَّمُ بأنَّ اللهَ تعالى يقبلُ “شفاعةَ الشافعين” هكذا ومن دونِ أيِّ ضوابطَ ومحددات!
فاللهُ تعالى ردَّ شفاعةَ سيدِنا إبراهيم في قومِ لوط رداً لم يقبل فيه مجادلتَه له عليه السلام (فَلَمَّا ذَهَبَ عَنْ إِبْرَاهِيمَ الرَّوْعُ وَجَاءَتْهُ الْبُشْرَى يُجَادِلُنَا فِي قَوْمِ لُوطٍ. إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَحَلِيمٌ أَوَّاهٌ مُنِيبٌ. يَا إِبْرَاهِيمُ أَعْرِضْ عَنْ هَذَا إِنَّهُ قَدْ جَاءَ أَمْرُ رَبِّكَ وَإِنَّهُمْ آتِيهِمْ عَذَابٌ غَيْرُ مَرْدُود) (74- 76 هود).
كما أنَّ اللهَ تعالى ردَّ شفاعةَ سيدِنا نوح في ابنه رداً فيه من الحزمِ والشدة ما جعلَه عليه السلام يسارعُ إلى استغفارِه تعالى (وَنَادَى نُوحٌ رَبَّهُ فَقَالَ رَبِّ إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي وَإِنَّ وَعْدَكَ الْحَقُّ وَأَنْتَ أَحْكَمُ الْحَاكِمِينَ. قَالَ يَا نُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ فَلَا تَسْأَلْنِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنِّي أَعِظُكَ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ. قَالَ رَبِّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ أَنْ أَسْأَلَكَ مَا لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ وَإِلَّا تَغْفِرْ لِي وَتَرْحَمْنِي أَكُنْ مِنَ الْخَاسِرِينَ) (45- 47 هود).
يتبيَّنُ لنا، وبتدبُّرِ ما تقدَّم، أنَّ أولئك الذين يَقصرون “الشفاعةَ” فيجعلونها من شؤونِ الآخرة فحسب، قد جاروا على القرآنِ العظيم بزعمهم هذا! فالشفاعةُ هي كلُّ توسُّلٍ إلى اللهِ تعالى يريدُ به صاحبُه أن يحولَ دون أن يُنزِلَ اللهُ تعالى عذابَه في ساحةِ من يسأله الشفاعةَ فيه سواء كان ذلك في هذه الحياةِ الدنيا أم في الآخرة.