
جاءَ القرآنُ العظيم العربَ بكلماتٍ لم يسبق وأن جرَت على ألسنتِهم، غير أنَّ ذلك لم يحُل دون أن يتبيَّنوها أما وقد نزلت في سياقِ نَصٍّ إلهيٍّ مُحكَمٍ وبلسانٍ عربيٍّ مبين. ومن هذه الكلمات كلمة “الدُّنيا” التي لم يسبق للعرب وأن وصفت بها هذه الحياةَ التي نعيشُها. فاللهُ تعالى أضافَ كلمة “الدنيا” إلى كلمة “الحياة”، وذلك ليُمايزَ بينها وبين “الآخرة” تِبياناً لِما تتميَّزُ به واحدتُهما عن الأخرى قُرباً وبُعداً منا. فالحياةُ الدنيا هي “أدنى” إلينا وأقربُ من الآخرة.
ولقد شدَّدَ القرآنُ العظيم على إلحاقِ هذه الصفة (الدنيا) بالحياةِ التي قدَّرَ اللهُ تعالى للإنسانِ أن يحياها على هذه الأرض إلى أجَلٍ مسمى، وذلك حتى يُوَطِّنَ العقلَ منا على الإيقانِ بأنَّ هنالك حياةً غيرها هي الحق الذي لا ريب ولا مراءَ فيه. فـ “الحياةُ الدنيا” تُذكِّرُ الإنسانَ بأن هذه الحياةَ هي ليست كلَّ ما هنالك، وأنَّ هناك “شيئاً آخرَ” لابد له من أن يُقِرَّ بوجودِه ويعملَ بما يقتضيه منه إقرارُه هذا.
و”الدنيا” مشتقةٌ من الفعل “دنا” بمعنى اقترب من الشيء، أي أصبح أكثر قرباً إليه. وهذا ما بوسعنا أن نتبيَّنه بتدبُّرِ المواطنِ التي وردت فيها الكلماتُ القرآنيةُ الأخرى المشتقةُ من الفعل “دنا”، وذلك من مثل: (قُطُوفُهَا دَانِيَةٌ) (23 الحاقة)، (وَجَنَى الْجَنَّتَيْنِ دَان) (من 54 الرحمن)، (ثُمَّ دَنَا فَتَدَلَّى. فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى) (8- 9 النجم)، (ذَلِكُمْ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ وَأَقْوَمُ لِلشَّهَادَةِ وَأَدْنَى أَلَّا تَرْتَابُوا) (من 282 البقرة).