
فرضَ اللهُ تعالى على الطبيعةِ منظومةً من القوانينِ والأنظمة استقرَّ بها أمرُها وصلُحَ بها حالُها. وجِماعُ هذه الأنظمةِ والقوانينِ يصُبُّ في مصلحةِ الهدفِ الذي سيَّرَ اللهُ تعالى به قدَرَ كلِّ كائنٍ من كائناتِ الطبيعة نباتاً كان أم حيواناً. فالمصلحةُ الغالبةُ في عالمِ الطبيعة هي مصلحةُ النوعِ لا مصلحةَ الفرد. ولذلك فلقد تمَّ صياغةُ الأنظمةِ والقوانين التي يُسيِّرُ اللهُ تعالى بها شؤونَ عالَمِ الطبيعة أخذاً بنظرِ الاعتبار “الهدف الأسمى” الذي جعلَ اللهُ تعالى الطبيعةَ تسعى جاهدةً لتصلَ إليه بإذنه. ومن هنا كان وجودُ الفردِ في عالَمِ الطبيعة لازماً، وذلك على قدرِ الحاجةِ إليه لتمشيةِ أمورها وفقاً لما تقضي به الأنظمةُ والقوانينُ التي فرضَها اللهُ تعالى عليها.
إنَّ ما تقدَّمَ تفصيلُه وتِبيانُه بشأنِ علاقةِ اللهِ تعالى بعالَم الطبيعة بوسعنا أن نتبيَّنه بتدبُّرِ الآياتِ الكريمةِ التالية: (وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا عِنْدَنَا خَزَائِنُهُ وَمَا نُنَزِّلُهُ إِلَّا بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ) (21 الحِجر)، (وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً بِقَدَرٍ فَأَسْكَنَّاهُ فِي الْأَرْضِ وَإِنَّا عَلَى ذَهَابٍ بِهِ لَقَادِرُونَ) (18 المؤمنون)، (وَلَوْ بَسَطَ اللَّهُ الرِّزْقَ لِعِبَادِهِ لَبَغَوْا فِي الْأَرْضِ وَلَكِنْ يُنَزِّلُ بِقَدَرٍ مَا يَشَاءُ إِنَّهُ بِعِبَادِهِ خَبِيرٌ بَصِيرٌ) (27 الشورى)، (وَالَّذِي نَزَّلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً بِقَدَرٍ فَأَنْشَرْنَا بِهِ بَلْدَةً مَيْتًا كَذَلِكَ تُخْرَجُونَ) (11 الزخرف)، (وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ قَدَرًا مَقْدُورًا) (من 38 الأحزاب)، (قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْرًا) (من 3 الطلاق).
إن هذا “التقديرَ الإلهي” قد حتَّمَ على الفرد في عالَمِ الحيوان أن يجريَ تسييرُ شؤونِه كلِّها جميعاً، وبما لا يجعلُ له “فرديةً” تتعارضُ مع “الهدفِ الأسمى” الذي فرضَ اللهُ تعالى على الطبيعةِ أن تسعى جاهدةً للوصولِ إليه. فاللهُ تعالى قد جعلَ كلَّ أمرٍ من أمورِ الفردِ في عالم الطبيعة مقدَّراً بمقاديرَ محددةٍ لا تزيد ولا تنقص. ومن هنا، وبمقتضى هذا “التقدير”، فإنَّ العلاقةَ بين الذكرِ والأنثى في عالَم الحيوان قد جعلَها اللهُ تعالى مُحدَّدةً بضوابطَ ومحدداتٍ يتبيَّنُ لكلِّ مَن يتدبَّرها أنَّ النوعَ هو المستفيدُ الأوحد من كلِّ ما يجري في هذا العالم، ولذلك فلم يكن هنالك من داعٍ على الإطلاق حتى يكونَ توزيعُ ذكورِ وإناث النوعِ الواحدِ متساوياً. فالتوزيعُ المتساوي لذكور وإناثِ النوعِ الواحد كان سيُفضي إلى الإخلالِ بقانون “التقديرِ” الذي قدَرَ اللهُ تعالى بموجبِه الأقسامَ والحظوظَ في عالمِ الحيوان وبما لا ينجمُ عنه أيُّ إسرافٍ أو هَدرٍ أو تبذيرٍ. فإذا كان بالإمكانِ الوصولُ إلى النتيجةِ المرجوة بعددٍ قليلٍ من الذكور، فإن من الإسرافِ أن يُصارَ إلى جعلِ أعدادِ ذكورِ وإناثِ النوعِ الواحدِ متساويةً. وهذا هو الأساسُ الذي تجلَّى “تعدداً للزوجات” في عالمِ الحيوان.
والآن، إذا كان كلُّ ما تقدَّم هو توصيفٌ لواقعِ الحالِ في عالِم الحيوان، وذلك على قدر تعلُّقِ الأمر بالعلاقة بين ذكور النوعِ الواحدِ وإناثه، فإن هذا لا ينبغي أن يكونَ ما هو عليه الأمرُ في عالم الإنسان؛ هذا العالمُ الذي يتمايزُ عن عالَم الحيوان بأنَّ للفردِ فيه “حضوراً” و”ذاتيةً” و”فرديةً” و”استقلالية”، وذلك بمعزلٍ عن إرادة النوع. إلا أنَّ الملاحَظَ هو غيرُ ذلك، فإذا كان “تعدد الزوجات” في عالم الحيوان مفهوماً و”طبيعياً”، فإنَّه غيرُ مفهومٍ وغيرُ طبيعي في عالم الإنسان!
على أنَّ استمرارَ الإنسانِ في السيرِ على خُطى الحيوان، وذلك على قدرِ تعلُّقِ الأمر بتعدد الزوجات، رغم ذلك، لهو الدليلُ القاطع بأنَّ للإنسانِ أصلاً حيوانياً.