
لم يَعدَم كفارُ قريشَ حجةً يتذرَّعون بها، كَذباً وبُهتاناً، لتبريرِ إعراضهم عن اتِّباعِ الهَدي الذي جاءهم به من عندِ اللهِ تعالى رسولُه الكريم صلى اللهُ تعالى عليه وسلم، ومن ذلك زعمُهم بأنَّهم إن آمنوا باللهِ وحدَه أصبحوا عُرضةً للعدوانِ عليهم من كلِّ حَدبٍ وصوب (وَقَالُوا إِنْ نَتَّبِعِ الْهُدَى مَعَكَ نُتَخَطَّفْ مِنْ أَرْضِنَا) (من 57 القصص). فأنزلَ اللهُ تعالى الآيةَ الكريمة 57 القصَص التي جاء فيها ردُّه الذي دحضَ وفنَّدَ زعمَهم هذا وذلك بقولِه تعالى (أَوَلَمْ نُمَكِّنْ لَهُمْ حَرَمًا آمِنًا يُجْبَى إِلَيْهِ ثَمَرَاتُ كُلِّ شَيْءٍ رِزْقًا مِنْ لَدُنَّا وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُون). فاللهُ تعالى ذكَّرَ كُفارَ قُريش بأنَّه هو الذي جعلَ مكةَ حَرَماً آمِناً، وذلك بالمقارنة مع القُرى المحيطةِ بها والتي كان الناسُ لا يأمنون فيها على أنفسِهم من غائلةِ قُطَّاعِ الطُرُق.
ولكن لماذا وصفَ اللهُ تعالى ما كان يُجبى إلى مكةَ من الثمرات بأنه “رزق من لدنه”؟
يتكفَّلُ بالإجابةِ على هذا السؤال أن نستذكرَ حقيقتَين قرآنيتَين، أولاهما هي أنَّ الكلمةَ القرآنيةَ الكريمة “لدُنا” قد وردت في القرآنِ العظيم في مواطنَ خمسةٍ أخرى، هي: (وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُوا مَا يُوعَظُونَ بِهِ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ وَأَشَدَّ تَثْبِيتًا. وَإِذًا لَآتَيْنَاهُمْ مِنْ لَدُنَّا أَجْرًا عَظِيمًا) (من 66- 67 النساء)، (فَوَجَدَا عَبْدًا مِنْ عِبَادِنَا آتَيْنَاهُ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنَا وَعَلَّمْنَاهُ مِنْ لَدُنَّا عِلْمًا) (65 الكهف)، (يَا يَحْيَى خُذِ الْكِتَابَ بِقُوَّةٍ وَآتَيْنَاهُ الْحُكْمَ صَبِيًّا. وَحَنَانًا مِنْ لَدُنَّا وَزَكَاةً وَكَانَ تَقِيًّا) (12- 13 مريم)، (وَقَدْ آتَيْنَاكَ مِنْ لَدُنَّا ذِكْرًا) (من 99 طه)، (وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لَاعِبِينَ. لَوْ أَرَدْنَا أَنْ نَتَّخِذَ لَهْوًا لَاتَّخَذْنَاهُ مِنْ لَدُنَّا إِنْ كُنَّا فَاعِلِينَ) (16- 17 الأنبياء). ويكفلُ لنا تدبُّرُ هذه المواطنِ كلِّها جميعاً أن نخلُصَ إلى نتيجةٍ مفادها أنَّ الكلمةَ القرآنيةَ الكريمة “لدُنا” تصِفُ تدخُّلَ اللهِ المباشر في وقائعِ وأحداثِ الوجود من دونِ أسبابٍ تتكفَّلُ بها القوانينُ التي بثَّها اللهُ تعالى في هذا الوجود ليحدثَ بمقتضاها ما يحدثُ فيه من وقائعَ وأحداث بإذنه. فهو تدخُّلٌ إلهيٌّ “لَدُني” لا قدرةَ لهذه القوانينِ على أن تُعلِّلَ له. فالرزقُ الذي أنعمَ اللهُ به على مكةَ المكرمة هو “من لدُنه” تعالى.
أما الحقيقةُ القرآنيةُ الثانية، فهي أنَّ سيدَنا إبراهيم كان قد دعا اللهَ تعالى أن يُأمِّنَ رزقَ ذريَّتِهِ التي أسكنها “بوادٍ غيرِ ذي زرع”: (رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُوا الصَّلَاةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُمْ مِنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ) (37 إبراهيم)، (وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا بَلَدًا آمِنًا وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَرَاتِ) (من 126 البقرة).
يتبيَّنُ لنا إذاً، وبتدبُّرِ ما تقدَّم، أنَّ كلَّ هذا الذي تنعمُ به مكةُ المكرمة من أمنٍ وأمانٍ ورزقٍ هو إنعامٌ وإفضال من الله الذي استجابَ دعاءَ عبدِه إبراهيم فجعلَ كلَّ ذلك مكفولاً لها بتدخلٍ مباشرٍ “من لدُنه”.