لا يملكُ مَن يتدبَّرُ فيما فرضَه اللهُ تعالى من فرائض على عباده الذين آمنوا إلا أن يخرجَ بنتيجةٍ مفادها أنَّ هذه الفرائضَ كلَّها جميعاً مطلقةٌ غيرُ مقيَّدةٍ خلا فريضةَ الجهاد في سبيل الله؛ هذه الفريضةُ التي قيَّدَها اللهُ تعالى فجعلَها مشروطةً بشرائطَ ومُحدِّداتٍ بيَّنتها وفصَّلتها آياتُ قرآنِه العظيم.
فلماذا كان هذا التمايزُ الذي استثنى اللهُ تعالى بمقتضاهُ فريضةَ الجهادِ في سبيلِه فلم يجعلها حرةً غيرَ مُقيَّدة؟
يتكفَّلُ بالإجابةِ على هذا السؤال أن نستذكرَ هذا الذي هو عليه الإنسانُ جِبلةً وخِلقة. فالإنسانُ خُلِقَ مجبولاً على ذاك الذي بيَّنته آياتٌ قرآنيةٌ كثيرة لن يستعصيَ على مَن يتدبَّرُها أن ينتهيَ إلى أن الأمرَ وثيقُ صلةٍ بـ “قانونِ التواجد الإنساني على هذه الأرض”؛ هذا القانون الذي أجملته الآياتُ الكريمةُ التالية: (فَأَزَلَّهُمَا الشَّيْطَانُ عَنْهَا فَأَخْرَجَهُمَا مِمَّا كَانَا فِيهِ وَقُلْنَا اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ) (36 البقرة)، (قَالَ اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ) (24 الأعراف)، (قَالَ اهْبِطَا مِنْهَا جَمِيعًا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ) (من 123 طه).
فاللهُ تعالى ما كان ليكتبَ القتالَ في سبيلِه، ويفرضَ الجهادَ في سبيلِه، على العبادِ مُحرَّراً غيرَ مُقيَّدٍ والإنسانُ عدوٌ جِبلةً وخِلقة لأخيه الإنسان! ولذلك فلقد كان حقيقاً على اللهِ تعالى ألا يجعلَ الجهادَ في سبيلِه قائماً إلى يومِ القيامة، كما يظنُّ أولئك الذين يُريدونها حرباً ضروساً لا ينبغي أن يخمدَ أوارُها وتضعَ أوزارَها! ولذلك أيضاً كان الجهادُ في سبيلِ اللهِ مُقيَّداً بتواجُدِ نبيٍّ مُرسَلٍ من عندِ الله يأتيه أمرُ الله واضحاً صريحاً فيأمرُ به أصحابَه الذين يتوجَّبُ عليهم الامتثالُ له إذعاناً وتسليماً. وكلُّ مَن يتوهَّمُ أن أمرَ اللهِ تعالى بالجهادِ في سبيلِه يمتدُّ بعد انقضاءِ عصرِ النبي المُرسَل، فإنه يحكم بما لم يقضِ به الله.
ومن هنا، فإنَّ تدبُّرَ آياتِ القتال والجهاد في القرآن العظيم لابد وأن ينتهي بنا إلى الجزمِ بألا جهادَ ولا قتالَ في سبيلِ الله بعد انقضاءِ عصرِ رسولِ اللهِ صلى الله تعالى عليه وسلم، وأنَّ كلَّ دعوةٍ إلى القتالِ والجهادِ في سبيلِ الله في زمانِنا هذا محكومٌ عليها بأنها دعوةٌ إلى الخلودِ في نارِ جهنم وبئس المصير.