تحدثتُ في منشورٍ سابق، عنوانُه “ومن الأحداثِ ما صُنعَ على عينِ الله”، عن أنَّ للهِ تعالى أن يتدخل تدخلاً مباشراً في أحداث التاريخ تتجلى فيه سلطتُهُ المطلقة على الوجود وما فيه، ويُصنَع بمقتضاه من عجيب الأحداثِ وغريبها ما تعجزُ قوانينُ التاريخ كما نعرفها عن التعليلِ له. فللهِ تعالى أن يتدخَّلَ هذا التدخُّلَ المباشرَ، الذي لا يملكُ التاريخُ حياله إلا أن يمتثلَ ويَنصاعَ لما يقضي به، وذلك استجابةً لدعاءِ مَن اختصَّهم برحمةٍ من لدنه جعلت الواحدَ منهم مستجابَ الدعاءِ عنده. ولقد جاءنا القرآنُ العظيم بكلِّ ما من شأنه أن يجعلَ العقلَ المتفكِّرَ المتدبِّرَ المُدَّكِر يتبيَّن ما لهذه الإستجابةِ الإلهية لدعاءِ عبادِه المخلَصين من عظيمِ قدرةٍ على صنعِ التاريخ وعلى تغييرِ مجراه وعلى التسبُّبِ في حدوثِ ما لا قدرةَ لما نعرف من قوانينِ التاريخ على التسبُّبِ فيه.
فيكفينا أن نستذكرَ كيف أنَّ اللهَ تعالى صيَّرَ مكةَ، التي كانت يوماً وادياً غيرَ ذي زرع، بلداً آمناً مُطمئناً تُجبى إليه الثمراتُ من كل مكان (أَوَلَمْ نُمَكِّنْ لَهُمْ حَرَمًا آمِنًا يُجْبَىٰ إِلَيْهِ ثَمَرَاتُ كُلِّ شَيْءٍ رِزْقًا مِنْ لَدُنَّا وَلَٰكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ) (من 57 القصص)، (َوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا حَرَمًا آمِنًا وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ أَفَبِالْبَاطِلِ يُؤْمِنُونَ وَبِنِعْمَةِ اللَّهِ يَكْفُرُونَ) (67 العنكبوت)، (فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَذَا الْبَيْتِ. الَّذِي أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ وَآمَنَهُمْ مِنْ خَوْف) (3- 4 قريش). حدث كلُّ هذا وتغيَّرَ كلُّ شيء بمجرد أنَّ اللهَ تعالى استجابَ دعاءَ خليلِه إبراهيم عليه السلام (وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا بَلَدًا آمِنًا وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَرَاتِ مَنْ آمَنَ مِنْهُمْ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ) (من 126 البقرة)، (رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُوا الصَّلَاةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُمْ مِنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ) (37 إبراهيم).
يتبيَّنُ لنا اذاً أن بمقدورِ الدعاءِ أن يصنعَ التاريخَ وأن يُغيِّرَ مجرى أحداثِهِ هذا إن كان صاحبُه قد اختصَّه اللهُ برحمةٍ من لدنه صار بمقتضاها مستجابَ الدعاء.

ونعم بالله
إعجابإعجاب