حكَّمَ اللهُ تعالى في الوجودِ أسباباً وقوانينَ أجازَ لها بأن تتحكَّمَ فيه بإذنه. غيرَ أنَّ هذه الإجازةَ الإلهيةَ قد جعلَها اللهُ مُقيَّدةً محدودةً مشروطة. فاللهُ تعالى لم يُجِز هذه الأسبابَ والقوانين ولم يأذن لها بأن يكونَ لها ما يجعلُ منها تستعصي على أمرِهِ إذا جاء حتى وإن كان في ذلك ما يتعارَضُ مع ما قدَّرَ لها أن تقضيَ به.
ولولا أنَّ القرآنَ العظيم قد أنبأنا بأنَّ للهِ تعالى أن “يتسلَّطَ” على هذه القوانينِ والأسباب لظنَنَّا أن ليس هناك ما بمقدورِهِ أن “يتسلَّطَ” عليها، ولحسِبنا أنَّ كلَّ ما يجري في هذا الوجودِ من وقائعَ وظواهرَ وأحداث هو نِتاجُ هذه الأسبابِ والقوانين. فلقد جاءنا القرآنُ العظيم بما يسَّرَ لنا أن نتبيَّنَ أنَّ هناك من الوقائعِ والظواهرِ والأحداث ما لا قدرةَ لهذه الأسبابِ والقوانين على التسبُّبِ فيه والوقوفِ بالتالي من وراءِ حدوثِه. وهذه الوقائعُ والظواهرُ والأحداث هي تلك التي “انبثقت” إلى الوجودِ بأن قالَ لها اللهُ “كن فيكون”. ونحن إن تتَّبعنا وتدبَّرنا المواطنَ القرآنيةَ الجليلة التي ظهرت فيها العبارةُ الكريمة “كن فيكون” فلن يكونَ بالعسيرِ علينا أن نتبيَّنَ أنَّ هذا “الانبثاق” جاءَ متعارِضاً مع كلِّ ما تقضي به أسبابُ الوجودِ وقوانينُه!
فيكفينا أن نستذكرَ بهذا الخصوص ما جاءتنا به سورةُ آل عمران في الآية الكريمة 47 منها (قَالَتْ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي وَلَدٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ قَالَ كَذَلِكِ اللَّهُ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ إِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ). فالسيدةُ مريم عليها السلام كانت تُشيرُ إلى أنَّ حملاً كهذا الذي بشَّرتها به الملائكةُ لا يمكنُ أن يكونَ متفقاً مع أسبابِ الوجودِ وقوانينِه؛ إذ كيف يُعقَلُ أن تحملَ ولم يمسسها بشر؟! فجاءها جوابُ الله بأن اللهَ قادرٌ على أن يتسلَّطَ على أسبابِه وقوانينِه بـ “كن فيكون”.
يتبيَّنُ لنا مما تقدَّم أنَّ السوادَ الأعظمَ من وقائعِ وظواهرِ وأحداثِ الوجود لا تحتاج إلى غيرِ ما سبقَ لله تعالى وأن بثَّه فيه من أسبابٍ وقوانينَ حتى يتسنى لها الحدوث، وأنَّ نزراً يسيراً من الوقائعِ والظواهرِ والأحداث فحسب هي التي تنبثق إلى الوجودِ وذلك بأن يقولَ لها اللهُ “كن فيكون”.
