ما كان لهذا الوجود أن تقومَ له قائمةٌ لولا ما بثَّهُ اللهُ فيه من أسبابٍ وقوانينَ تكفَّلت بالتسبيبِ بإذنِه تعالى لوقائعِهِ وأحداثِه وظواهرِهِ. وهذا هو ما ينبغي أن يتداعى إلى البالِ كلما عنَّ للمرءِ أن يتفكَّرَ في ذلك الذي ينطوي عليه إسمُ اللهِ “الباطن” من معنى. فاللهُ تعالى هو الذي يقفُ من وراءِ تلكَ الأسبابِ والقوانين التي لا قيامَ لهذا الوجودِ إلا بها؛ فإذا كانت هذه القوانينُ والأسبابُ هي “الظاهرةَ” للعِيان، فإنَّ هذا لا ينبغي أن يجعلَ من العقلِ المتفكِّرِ المتدبِّر يتوهَّمُها فيظنُّ أنها تفعلُ ما تفعل دون تكليفٍ من اللهِ وإذنٍ وإجازة!
وإذا كانت هذه الأسبابُ والقوانين قد تكفَّلت بإذنِ اللهِ بتسييرِ وتنظيمِ أمورِ هذا الوجودِ وشؤونِه كلِّها جميعاً، فإن هذا لا ينبغي أن يجعلَنا نظنُّ ونتوهَّم أن ليس هناك ما بمقدورِه أن يتسلَّطَ عليها فلا يُمكِّنُها من الوجود! فاللهُ تعالى قادرٌ على كلِّ شيء، وهو القاهرُ المهيمن “الظاهر” بحُكمِهِ وأمرِه وكلماتِه.
ولذلك كان “التوكُّلُ على الله” هو ما يُستدَلُّ به على تمكُّنِ الإيمانِ من قلبِ العبدِ العابد. فالمؤمنُ باللهِ حقَّ الإيمان موقِنٌ بأنَّه إذا أرادَ أن يُنجِزَ أمراً ما، فلابد من أن يُعِدَّ له ما يقتضيهِ هذا الأمرُ من إعدادٍ، وذلك وفقاً لما تقضي به أسبابُ هذا الوجودِ وقوانينُه. غيرَ أنَّ هذا المؤمنَ، ومع هذا الإعدادِ كلِّه، مدرِكٌ تمامَ الإدراكِ أنَّ الأمرَ كلَّه لله، وأنَّ الحكمَ لله، وأنَّ ما قُدِّرَ له أن يقومَ بالإعدادِ له لن يُغنيَ عنه من اللهِ شيئاً إذا ما أرادَ اللهُ أن يتسلَّطَ بحُكمِه وبأمرِهِ فلا يجعل من سلطةٍ غيرَ تسلُّطِهِ هذا وإن كان ذلك يعني أن يُهمِّشَ قوانينَه وأسبابَه ليتجلى بذلك حُكمُه وأمرُه وهو الغالبُ على أمرِه “الظاهرُ” بحُكمِه.
